فصل: (اخْتِلَافُ رَسْمِ الْكَلِمَاتِ فِي الْمُصْحَفِ وَالْحِكْمَةِ فِيهِ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***


النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ عِلْمُ مَرْسُومِ الْخَطِّ

وَلَمَّا كَانَ خَطُّ الْمُصْحَفِ هُوَ الْإِمَامَ الَّذِي يَعْتَمِدُهُ الْقَارِئُ فِي الْوَقْفِ وَالتَّمَامِ، وَلَا يَعْدُو رُسُومَهُ، وَلَا يَتَجَاوَزُ مَرْسُومَهُ؛ قَدْ خَالَفَ خَطَّ الْإِمَامِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْأَعْلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَيْفَ اتَّفَقَ؛ بَلْ عَلَى أَمْرٍ عِنْدَهُمْ قَدْ تَحَقَّقَ، وَجَبَ الِاعْتِنَاءُ بِهِ وَالْوُقُوفُ عَلَى سَبَبِهِ‏.‏

وَلَمَّا كَتَبَ الصَّحَابَةُ الْمُصْحَفَ زَمَنَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اخْتَلَفُوا فِي كِتَابَةِ التَّابُوتِ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 248‏)‏، فَقَالَ زَيْدٌ‏:‏ التَّابُوهُ، وَقَالَ النَّفَرُ الْقُرَشِيُّونَ‏:‏ التَّابُوتُ، وَتَرَافَعُوا إِلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ‏:‏ اكْتُبُوا التَّابُوتَ، فَإِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِ قُرَيْشٍ‏.‏

قَالَ ابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ‏:‏ ‏"‏ خَطَّانِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِمَا خَطُّ الْمُصْحَفِ وَخَطُّ تَقْطِيعِ الْعَرُوضِ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي كِتَابِ اللُّبَابِ‏:‏ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ إِلَى كِتَابَةِ الْكَلِمَةِ عَلَى لَفْظِهَا إِلَّا فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ؛ فَإِنَّهُمُ اتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ مَا وَجَدُوهُ فِي الْإِمَامِ، وَالْعَمَلُ عَلَى الْأَوَّلِ‏.‏

فَحَصَلَ أَنَّ الْخَطَّ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ‏:‏ خَطٌّ يُتَّبَعُ بِهِ الِاقْتِدَاءُ السَّلَفِيُّ، وَهُوَ الرَّسْمُ الْمَرْعِيُّ فِي الْمُصْحَفِ، وَخَطٌّ جَرَى عَلَى مَا أَثْبَتَهُ اللَّفْظُ وَإِسْقَاطِ مَا حَذَفَهُ، وَهُوَ خَطُّ الْعَرُوضِ، فَيَكْتُبُونَ التَّنْوِينَ وَيَحْذِفُونَ هَمْزَةَ الْوَصْلِ، وَخَطٌّ جَرَى عَلَى الْعَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ؛ وَهُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ النَّحْوِيُّ‏.‏

وَاعْلَمْ أَنَّ لِلشَّيْءِ فِي الْوُجُودِ أَرْبَعَ مَرَاتِبَ‏:‏ ‏(‏الْأُولَى‏)‏ حَقِيقَتُهُ فِي نَفْسِهِ‏.‏

‏(‏وَالثَّانِيَةُ‏)‏ مِثَالُهُ فِي الذِّهْنِ‏.‏

وَهَذَانِ لَا يَخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ‏.‏

‏(‏وَالثَّالِثَةُ‏)‏ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمِثَالِ الذِّهْنِيِّ وَالْخَارِجِيِّ‏.‏

‏(‏وَالرَّابِعَةُ‏)‏ الْكِتَابَةُ الدَّالَّةُ عَلَى اللَّفْظِ‏.‏

وَهَذَانِ قَدْ يَخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ، كَاخْتِلَافِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ، وَالْخَطِّ الْعَرَبِيِّ وَالْهِنْدِيِّ؛ وَلِهَذَا صَنَّفَ النَّاسُ فِي الْخَطِّ وَالْهِجَاءِ؛ إِذْ لَا يَجْرِي عَلَى حَقِيقَةِ اللَّفْظِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ‏.‏

وَقَالَ الْفَارِسِيُّ‏:‏ لَمَّا عَمِلَ أَبُو بَكْرِ بْنُ السَّرَّاجِ كِتَابَ الْخَطِّ وَالْهِجَاءِ قَالَ لِي‏:‏ اكْتُبْ كِتَابَنَا هَذَا، قُلْتُ لَهُ‏:‏ نَعَمْ إِلَّا أَنِّي آخُذُ بِآخِرِ حَرْفٍ مِنْهُ، قَالَ‏:‏ وَمَا هُوَ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ قَوْلُهُ‏:‏ وَمَنْ عَرَفَ صَوَابَ اللَّفْظِ، عَرَفَ صَوَابَ الْخَطِّ‏.‏

قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ فَارِسٍ فِي كِتَابِ فِقْهِ اللُّغَةِ‏:‏ يُرْوَى أَنَّ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَالسُّرْيَانِيَّ وَالْكُتُبَ كُلَّهَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، كَتَبَهَا فِي طِينٍ وَطَبَخَهُ، فَلَمَّا أَصَابَ الْأَرْضَ الْغَرَقُ وَجَدَ كُلُّ قَوْمٍ كِتَابًا فَكَتَبُوهُ، فَأَصَابَ إِسْمَاعِيلُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ‏:‏ أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ وَمُخْتَلِفَةٌ‏.‏

وَالَّذِي نَقُولُهُ‏:‏ إِنَّ الْخَطَّ تَوْقِيفِيٌّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏(‏الْعَلَقِ‏:‏ 4، 5‏)‏، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ‏}‏ ‏(‏الْقَلَمِ‏:‏ 1‏)‏ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ أَنْ يُوقَفَ آدَمُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى الْكِتَابِ‏.‏

وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ الْعَرَبَ الْعَارِبَةَ لَمْ تَعْرِفْ هَذِهِ الْحُرُوفَ بِأَسْمَائِهَا، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوهَا نَحْوًا وَلَا إِعْرَابًا وَلَا رَفْعًا وَلَا نَصْبًا وَلَا هَمْزًا‏.‏

وَمَذْهَبُنَا‏:‏ أَنَّ أَسْمَاءَ هَذِهِ الْحُرُوفِ دَاخِلَةٌ فِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي عَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ‏:‏ وَمَا اشْتَهَرَ أَنَّ أَبَا الْأَسْوَدِ أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْعَرَبِيَّةَ، وَأَنَّ الْخَلِيلَ أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْعَرُوضَ، فَلَا نُنْكِرُهُ، وَإِنَّمَا نَقُولُ‏:‏ إِنَّ هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ كَانَا قَدِيمَيْنِ، وَأَتَتْ عَلَيْهِمَا الْأَيَّامُ، وَقَلَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، ثُمَّ جَدَّدَهُمَا هَذَانِ الْإِمَامَانِ‏.‏

وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى عِرْفَانِ الْقُدَمَاءِ ذَلِكَ كِتَابَتُهُمُ الْمُصْحَفَ عَلَى الَّذِي يُعَلِّلُهُ النَّحْوِيُّونَ فِي ذَوَاتِ الْوَاوِ وَالْيَاءِ، وَالْهَمْزِ وَالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، فَكَتَبُوا ذَوَاتَ الْيَاءِ بِالْيَاءِ، وَذَوَاتَ الْوَاوِ بِالْأَلِفِ، وَلَمْ يُصَوِّرُوا الْهَمْزَةَ إِذَا كَانَ مَا قَبْلَهَا سَاكِنًا، نَحْوُ ‏(‏الْخَبْءِ‏)‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 25‏)‏ وَالْـ ‏(‏دِفْءٌ‏)‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 5‏)‏ وَالْـ ‏(‏مِلْءُ‏)‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 92‏)‏ فَصَارَ ذَلِكَ حُجَّةً، وَحَتَّى كَرِهَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَرْكَ اتِّبَاعِ الْمُصْحَفِ‏.‏

وَأُسْنِدَ إِلَى الْفَرَّاءِ قَالَ‏:‏ اتِّبَاعُ الْمُصْحَفِ إِذَا وَجَدْتُ لَهُ وَجْهًا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقِرَاءَةُ الْقُرَّاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ خِلَافِهِ‏.‏

وَقَالَ أَشْهَبُ‏:‏ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏ هَلْ تَكْتُبُ الْمُصْحَفَ عَلَى مَا أَخَذَتْهُ النَّاسُ مِنَ الْهِجَاءِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ لَا؛ إِلَّا عَلَى الْكِتْبَةِ الْأُولَى‏.‏ رَوَاهُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ فِي الْمُقْنِعِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ وَلَا مُخَالِفَ لَهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ‏.‏

وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏:‏ سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الْحُرُوفِ فِي الْقُرْآنِ مِثْلِ الْوَاوِ وَالْأَلِفِ‏:‏ أَتَرَى أَنْ تُغَيَّرَ مِنَ الْمُصْحَفِ إِذَا وُجِدَا فِيهِ كَذَلِكَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ لَا‏.‏ قَالَ أَبُو عَمْرٍو‏:‏ يَعْنِي الْوَاوَ وَالْأَلِفَ الْمَزِيدَتَيْنِ فِي الرَّسْمِ لِمَعْنًى، الْمَعْدُومَتَيْنِ فِي اللَّفْظِ، نَحْوُ‏:‏ ‏{‏أُولُوا الْأَلْبَابِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 269‏)‏، ‏{‏وَأُولَاتُ‏}‏ ‏(‏الطَّلَاقِ‏:‏ 4‏)‏، وَ ‏{‏الرِّبَوا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 275‏)‏، وَنَحْوِهِ‏.‏

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏ تَحْرُمُ مُخَالَفَةُ خَطِّ مُصْحَفِ عُثْمَانَ فِي يَاءٍ أَوْ وَاوٍ أَوْ أَلِفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَكَانَ هَذَا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَالْعِلْمُ حَيٌّ غَضٌّ، وَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ يُخْشَى الْإِلْبَاسُ؛ وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ‏:‏ لَا تَجُوزُ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ إِلَّا عَلَى الرُّسُومِ الْأَوْلَى بِاصْطِلَاحِ الْأَئِمَّةِ؛ لِئَلَّا يُوقِعَ فِي تَغْيِيرٍ مِنَ الْجُهَّالِ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي إِجْرَاءُ هَذَا عَلَى إِطْلَاقِهِ؛ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إِلَى دُرُوسِ الْعِلْمِ، وَشَيْءٌ أَحْكَمَتْهُ الْقُدَمَاءُ لَا يُتْرَكُ مُرَاعَاتُهُ لِجَهْلِ الْجَاهِلِينَ؛ وَلَنْ تَخْلُوَ الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِالْحُجَّةِ‏.‏

وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ‏:‏ مَنْ كَتَبَ مُصْحَفًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافِظَ عَلَى حُرُوفِ الْهِجَاءِ الَّتِي كَتَبُوا بِهَا تِلْكَ الْمَصَاحِفَ، وَلَا يُخَالِفَهُمْ فِيهَا، وَلَا يُغَيِّرَ مِمَّا كَتَبُوهُ شَيْئًا؛ فَإِنَّهُمْ أَكْثَرُ عِلْمًا، وَأَصْدَقُ قَلْبًا وَلِسَانًا، وَأَعْظَمُ أَمَانَةً مِنَّا؛ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ نَظُنَّ بِأَنْفُسِنَا اسْتِدْرَاكًا عَلَيْهِمْ‏.‏ وَرَوَى بِسَنَدِهِ عَنْ زَيْدٍ، قَالَ‏:‏ الْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ‏.‏ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ‏:‏ يَعْنِي أَلَّا تُخَالِفَ النَّاسَ بِرَأْيِكِ فِي الِاتِّبَاعِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَبِمَعْنَاهُ بَلَغَنِي عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ‏:‏ وَتَرَى الْقُرَّاءَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى مَذْهَبِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْقِرَاءَةِ إِذَا خَالَفَ ذَلِكَ خَطَّ الْمُصْحَفِ، وَاتِّبَاعُ حُرُوفِ الْمَصَاحِفِ عِنْدَهُمْ كَالسُّنَنِ الْقَائِمَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَدَّاهَا‏.‏

مَسْأَلَةٌ‏:‏ ‏[‏فِي كِتَابَةِ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْخَطِّ الْعَرَبِيِّ‏]‏

هَلْ يَجُوزُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِقَلَمٍ غَيْرِ الْعَرَبِيِّ‏؟‏ هَذَا مِمَّا لَمْ أَرَ لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ كَلَامًا‏.‏ وَيُحْتَمَلُ الْجَوَازُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُحَسِّنُهُ مَنْ يَقْرَؤُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَالْأَقْرَبُ الْمَنْعُ، كَمَا تَحْرُمُ قِرَاءَتُهُ بِغَيْرِ لِسَانِ الْعَرَبِ، وَلِقَوْلِهِمُ‏:‏ الْقَلَمُ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ، وَالْعَرَبُ لَا تَعْرِفُ قَلَمًا غَيْرَ الْعَرَبِيِّ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 195‏)‏‏.‏

‏[‏اخْتِلَافُ رَسْمِ الْكَلِمَاتِ فِي الْمُصْحَفِ وَالْحِكْمَةِ فِيهِ‏]‏

وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَطَّ جَرَى عَلَى وُجُوهٍ‏:‏ مِنْهَا مَا زِيدَ فِيهِ عَلَى اللَّفْظِ، وَمِنْهَا مَا نَقَصَ، وَمِنْهَا مَا كُتِبَ عَلَى لَفْظِهِ، وَذَلِكَ لِحِكَمٍ خَفِيَّةٍ، وَأَسْرَارٍ بَهِيَّةٍ، تَصَدَّى لَهَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُرَّاكِشِيُّ الشَّهِيرُ بِابْنِ الْبَنَّاءِ، فِي كِتَابِهِ‏:‏ ‏"‏ عُنْوَانُ الدَّلِيلِ فِي مَرْسُومِ خَطِّ التَّنْزِيلِ ‏"‏، وَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْرُفَ إِنَّمَا اخْتَلَفَ حَالُهَا فِي الْخَطِّ، بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ مَعَانِي كَلِمَاتِهَا‏.‏

وَمِنْهَا التَّنْبِيهُ عَلَى الْعَوَالِمِ الْغَائِبِ وَالشَّاهِدِ، وَمَرَاتِبِ الْوُجُودِ، وَالْمَقَامَاتِ، وَالْخَطُّ إِنَّمَا يُرْتَسَمُ عَلَى الْأَمْرِ الْحَقِيقِيِّ لَا الْوَهْمِيِّ

‏[‏الزَّائِدُ وَأَقْسَامُهُ‏]‏

‏[‏الْقِسْمُ الْأَوَّلُ‏:‏ زِيَادَةُ الْأَلِفِ‏]‏

الْأَوَّلُ‏:‏ مَا زِيدَ فِيهِ

وَالزَّائِدُ أَقْسَامٌ‏:‏

الْأَوَّلُ الْأَلِفُ؛ أَيْ فِي الْخَطِّ وَحِكْمَةُ الزِّيَادَةِ وَهَى إِمَّا أَنْ تُزَادَ مِنْ أَوَّلِ الْكَلِمَةِ، أَوْ مِنْ آخِرِهَا، أَوْ مِنْ وَسَطِهَا‏.‏

فَالْأَوَّلُ‏:‏ تَكُونُ بِمَعْنًى زَائِدٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا قَبْلَهُ فِي الْوُجُودِ، مِثْلُ؛ ‏{‏أَوْ لَأَاذْبَحَنَّهُ‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 21‏)‏،

وَ‏{‏وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 47‏)‏، زِيدَتِ الْأَلِفُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُؤَخَّرَ أَشَدُّ فِي الْوُجُودِ مِنَ الْمُقَدَّمِ عَلَيْهِ لَفْظًا؛ فَالذَّبْحُ أَشَدُّ مِنَ الْعَذَابِ، وَالْإِيضَاعُ أَشَدُّ إِفْسَادًا مِنْ زِيَادَةِ الْخَبَالِ‏.‏ وَاخْتَلَفَتِ الْمَصَاحِفُ فِي حَرْفَيْنِ‏:‏ ‏{‏لَإِلَى الْجَحِيمِ‏}‏ ‏(‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 68‏)‏، وَ ‏{‏لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 158‏)‏، فَمَنْ رَأَى أَنَّ مَرْجِعَهُمْ إِلَى الْجَحِيمِ أَشَدُّ مِنْ أَكْلِ الزَّقُّومِ وَشُرْبِ الْحَمِيمِ، وَأَنَّ حَشْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ مَوْتِهِمْ أَوْ قَتْلِهِمْ فِي الدُّنْيَا، أَثْبَتَ الْأَلِفَ‏.‏ وَمَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ غَيْبٌ عَنَّا، فَلَمْ يَسْتَوِ الْقِسْمَانِ فِي الْعِلْمِ بِهِمَا لَمْ يُثْبِتْهُ، وَهُوَ أَوْلَى‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَايْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَايْئَسُ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 87‏)‏، ‏{‏أَفَلَمْ يَايْئَسِ‏}‏ ‏(‏الرَّعْدِ‏:‏ 31‏)‏؛ لِأَنَّ الصَّبْرَ وَانْتِظَارَ الْفَرَجِ أَخَفُّ مِنَ الْإِيَاسِ، وَالْإِيَاسُ لَا يَكُونُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا بَعْدَ الصَّبْرِ وَالِانْتِظَارِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى خَارِجٍ عَنِ الْكَلِمَةِ يَحْصُلُ فِي الْوُجُودِ؛ لِزِيَادَتِهَا بَعْدَ الْوَاوِ فِي الْأَفْعَالِ، نَحْوِ يَرْجُوا، وَيَدْعُوا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ أَثْقَلُ مِنَ الِاسْمِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ فَاعِلًا، فَهُوَ جُمْلَةٌ، وَالِاسْمُ مُفْرَدٌ لَا يَسْتَلْزِمُ غَيْرَهُ، فَالْفِعْلُ أَزْيَدُ مِنَ الِاسْمِ فِي الْوُجُودِ، وَالْوَاوُ أَثْقَلُ حُرُوفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ، وَالضَّمَّةُ أَثْقَلُ الْحَرَكَاتِ، وَالْمُتَحَرِّكُ أَثْقَلُ مِنَ السَّاكِنِ، فَزِيدَتِ الْأَلِفُ تَنْبِيهًا عَلَى ثِقَلِ الْجُمْلَةِ، وَإِذَا زِيدَتْ مَعَ الْوَاوِ، الَّتِي هِيَ لَامُ الْفِعْلِ، فَمَعَ الْوَاوِ الَّتِي هِيَ ضَمِيرُ الْفَاعِلِينَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ جُمْلَةٌ، مِثْلُ قَالُوا، وَعَصَوْا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُضَارِعًا وَفِيهِ النُّونُ عَلَامَةُ الرَّفْعِ، فَتَخْتَصُّ الْوَاوُ بِالنُّونِ، الَّتِي هِيَ مِنْ جِهَةِ تَمَامِ الْفِعْلِ؛ إِذْ هِيَ إِعْرَابُهُ فَيَصِيرُ كَكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَسَطُهَا وَاوٌ؛ كَالْعُيُونِ وَالسُّكُونِ، فَإِنْ دَخَلَ نَاصِبٌ أَوْ جَازِمٌ مِثْلُ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 24‏)‏ ثَبَتَتِ الْأَلِفُ‏.‏

وَقَدْ تَسْقُطُ فِي مَوَاضِعَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اضْمِحْلَالِ الْفِعْلِ، نَحْوِ‏:‏ ‏{‏سَعَوْ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ‏}‏ ‏(‏سَبَأٍ‏:‏ 5‏)‏ فَإِنَّهُ سَعْيٌ فِي الْبَاطِلِ لَا يَصِحُّ لَهُ ثُبُوتٌ فِي الْوُجُودِ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏جَاءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 116‏)‏ وَ‏{‏جَاءُو ظُلْمًا وَزُورًا‏}‏ ‏(‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 4‏)‏ ‏"‏ ‏"‏ وَجَاءُو أَبَاهُمْ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 16‏)‏، ‏{‏وَجَاءُو عَلَى قَمِيصِهِ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 18‏)‏ فَإِنَّ هَذَا الْمَجِيءَ لَيْسَ عَلَى وَجْهِهِ الصَّحِيحِ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ فَاءُو‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 226‏)‏ وَهُوَ فَيْءٌ بِالْقَلْبِ وَالِاعْتِقَادِ‏.‏

وَكَذَا‏:‏ ‏{‏تَبَوَّءُو الدَّارَ وَالْإِيمَانَ‏}‏ ‏(‏الْحَشْرِ‏:‏ 9‏)‏ اخْتَارُوهَا سَكَنًا، لَكِنْ لَا عَلَى الْجِهَةِ الْمَحْسُوسَةِ؛ لِأَنَّهُ سَوَّى بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا اخْتَارُوهَا سَكَنًا لِمَرْضَاةِ اللَّهِ؛ بِدَلِيلِ وَصْفِهِمْ بِالْإِيثَارِ مَعَ الْخَصَاصَةِ؛ فَهَذَا دَلِيلُ زُهْدِهِمْ فِي مَحْسُوسَاتِ الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ‏:‏ فَاءُوا لِأَنَّهُ رُجُوعٌ مَعْنَوِيٌّ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 99‏)‏ حُذِفَتْ أَلِفُهُ لِأَنَّ كَيْفِيَّةَ هَذَا الْفِعْلِ لَا تُدْرَكُ، إِذْ هُوَ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ؛ إِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا‏}‏ ‏(‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 21‏)‏، هَذَا عُتُوٌّ عَلَى اللَّهِ، لِذَلِكَ وَصَفَهُ بِالْكِبَرِ، فَهُوَ بَاطِلٌ فِي الْوُجُودِ‏.‏

وَكَذَلِكَ سَقَطَتْ مِنْ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ‏}‏ ‏(‏الْمُطَفِّفِينَ‏:‏ 3‏)‏، وَلَمْ تَسْقُطْ مِنْ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ‏}‏ ‏(‏الشُّورَى‏:‏ 37‏)‏، لِأَنَّ غَضِبُوا جُمْلَةٌ بَعْدَهَا أُخْرَى، وَالضَّمِيرُ مُؤَكِّدٌ لِلْفَاعِلِ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَ ‏(‏كَالُوهُمْ‏)‏ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، الضَّمِيرُ جُزْءٌ مِنْهَا‏.‏

وَكَذَلِكَ زِيدَتِ الْأَلِفُ بَعْدَ الْهَمْزَةِ فِي حَرْفَيْنِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوأَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 29‏)‏، وَ‏{‏مَا إِنَّ مَفَاتِحَةُ لَتَنُوأُ‏}‏ ‏(‏الْقَصَصِ‏:‏ 76‏)‏ تَنْبِيهًا عَلَى تَفْصِيلِ الْمَعْنَى، فَإِنَّهُ يَبُوءُ بِإِثْمَيْنِ مِنْ فِعْلٍ وَاحِدٍ، وَتَنُوءُ الْمَفَاتِحُ بِالْعُصْبَةِ، فَهُوَ نَوْءَانُ لِلْمَفَاتِحِ؛ لِأَنَّهَا بِثِقَلِهَا أَثْقَلَتْهُمْ فَمَالَتْ وَأَمَالَتْهُمْ، وَفِيهِ تَذْكِيرٌ بِالْمُنَاسَبَةِ يُتَوَجَّهُ بِهِ مِنْ مَفَاتِحِ كُنُوزِ مَالِ الدُّنْيَا الْمَحْسُوسِ، إِلَى مَفَاتِحِ كُنُوزِ الْعِلْمِ الَّذِي يَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ فِي يَقِينِهِمْ، إِلَى مَا عِنْدَ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ‏.‏

وَكَذَلِكَ زِيدَتْ بَعْدَ الْهَمْزَةِ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ‏}‏ تَنْبِيهًا عَلَى مَعْنَى الْبَيَاضِ وَالصَّفَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا لَيْسَ بِمَكْنُونٍ وَعَلَى تَفْصِيلِ الْإِفْرَادِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏كَأَمْثَالِ‏)‏، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ حَالِ‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ‏}‏ ‏(‏الطُّورِ‏:‏ 24‏)‏ فَلَمْ يُزَدِ الْأَلِفُ لِلْإِجْمَالِ وَخَفَاءِ التَّفْصِيلِ‏.‏

وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو‏:‏ كَتَبُوا الْـ ‏(‏لُؤْلُؤًا‏)‏ فِي الْحَجِّ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 23‏)‏، وَ ‏"‏ الْمَلَائِكَةِ ‏"‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 33‏)‏ بِالْأَلِفِ، وَاخْتُلِفَ فِي زِيَادَتِهَا، فَقَالَ أَبُو عَمْرٍو‏:‏ كَمَا زَادُوهَا فِي ‏(‏كَانُوا‏)‏، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ‏:‏ لِمَكَانِ الْهَمْزَةِ‏.‏

وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيِّ‏:‏ كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ‏"‏ لُؤْلُؤٍ ‏"‏ فَبِغَيْرِ الْأَلِفِ فِي مَصَاحِفِ الْبَصْرِيِّينَ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ‏:‏ فِي الْحَجِّ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 23‏)‏، وَالْإِنْسَانِ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 19‏)‏‏.‏

وَقَالَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ‏:‏ كُلُّهَا فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ بِالْأَلِفِ إِلَّا الَّتِي فِي الْمَلَائِكَةِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ تَكُونُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِ الْكَلِمَةِ ظَاهِرٍ، مِثْلُ‏:‏ ‏{‏وَجِايءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ‏}‏ ‏(‏الْفَجْرِ‏:‏ 23‏)‏، زِيدَتِ الْأَلِفُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَجِيءَ هُوَ بِصِفَةٍ مِنَ الظُّهُورِ يَنْفَصِلُ بِهَا عَنْ مَعْهُودِ الْمَجِيءِ، وَقَدْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي، وَلَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا بِعَلَامَةٍ مِنْ غَيْرِهِ لَيْسَ مِثْلَهُ، فَيَسْتَوِي فِي عِلْمِنَا مُلْكُهَا وَمَلَكُوتُهَا فِي ذَلِكَ الْمَجِيءِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏:‏ ‏{‏وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 91‏)‏، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا‏}‏ ‏(‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 12‏)‏، هَذَا بِخِلَافِ حَالِ‏:‏ ‏{‏وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 69‏)‏؛ حَيْثُ لَمْ تُكْتَبِ الْأَلِفُ؛ لِأَنَّهُ عَلَى الْمَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا، وَمَنْ تَأَوَّلَهُ بِمَعْنَى الْبُرُوزِ فِي الْمَحْشَرِ لِتَعْظِيمِ جَنَابِ الْحَقِّ أَثْبَتَ الْأَلِفَ فِيهِ أَيْضًا‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقُولَنَّ لِشَايْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 23‏)‏ الشَّيْءُ هُنَا مَعْدُومٌ، وَإِنَّمَا عَلِمْنَاهُ مِنْ تَصَوُّرِ مِثْلِهِ الَّذِي قَدْ وَقَعَ فِي الْوُجُودِ فَنُقِلَ لَهُ الِاسْمُ فِيهِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُقَدَّرُ أَنَّهُ يَكُونُ مِثْلَهُ فِي الْوُجُودِ، فَزِيدَتِ الْأَلِفُ تَنْبِيهًا عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْدُومِ مِنْ جِهَةِ تَقْدِيرِ الْوُجُودِ، إِذْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ، مَعْدُومٌ فِي الْأَعْيَانِ‏.‏

وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي النَّحْلِ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 40‏)‏ فَإِنَّ الشَّيْءَ هُنَا مِنْ جِهَةِ قَوْلِ اللَّهِ، لَا يُعْلَمُ كَيْفَ ذَلِكَ، بَلْ نُؤْمِنُ بِهِ تَسْلِيمًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِيهِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ بِعِلْمِهِ لَا بِهَا، وَنَحْنُ نَعْلَمُهَا بِوُجُودِهَا لَا بِعِلْمِنَا فَلَا تَشْبِيهَ وَلَا تَعْطِيلَ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 97‏)‏ زِيدَتِ الْأَلِفُ بَيْنِ اللَّامِ وَالْهَمْزَةِ، تَنْبِيهًا عَلَى تَفْصِيلٍ مُهِمٍّ ظَاهِرِ الْوُجُودِ‏.‏

وَمِثْلُهُ زِيَادَتُهَا فِي‏:‏ ‏{‏مِائَةَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 259‏)‏ لِأَنَّهُ اسْمٌ يَشْتَمِلُ عَلَى كَثْرَةٍ مُفَصَّلَةٍ بِمَرْتَبَتَيْنِ‏:‏ آحَادٍ وَعَشَرَاتٍ‏.‏

قَالَ أَبُو عَمْرٍو فِي الْمُقْنِعِ‏:‏ لَا خِلَافَ فِي رَسْمِ أَلِفِ الْوَصْلِ النَّاقِصَةِ مِنَ اللَّفْظِ فِي الدَّرْجِ، نَحْوِ‏:‏ ‏{‏عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 87‏)‏، ‏{‏وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 17‏)‏، وَهُوَ نَعْتٌ، كَمَا أَثْبَتُوهَا فِي الْخَبَرِ نَحْوِ‏:‏ ‏{‏عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 30‏)‏، وَ‏{‏الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 30‏)‏، وَلَمْ تُحْذَفْ إِلَّا فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَلَا خِلَافَ فِي زِيَادَةِ الْأَلِفِ بَعْدِ الْمِيمِ فِي ‏{‏مِائَةَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 259‏)‏، وَ‏{‏مِائَتَيْنِ‏}‏ ‏(‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 65‏)‏، حَيْثُ وَقَعَا، وَلَمْ تُزَدْ فِي ‏{‏فِئَةٍ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 249‏)‏، وَلَا ‏{‏فِئَتَيْنِ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 13‏)‏، وَزِيدَتْ فِي نَحْوِ‏:‏ ‏{‏تَفْتَؤُا‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 85‏)‏ ‏{‏تَبُوأَ بِإِثْمِي‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 29‏)‏ وَ ‏{‏لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ‏}‏ ‏(‏الْقَصَصِ‏:‏ 76‏)‏، وَلَا أَعْلَمُ هَمْزَةً مُتَطَرِّفَةً قَبْلَهَا سَاكِنٌ رُسِمَتْ فِي الْمُصْحَفِ إِلَّا فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ‏.‏ وَلَا أَعْلَمُ هَمْزَةً مُتَوَسِّطَةً قَبْلَهَا سَاكِنٌ رُسِمَتْ فِي الْمُصْحَفِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَوْئِلًا‏}‏ فِي الْكَهْفِ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 58‏)‏ لَا غَيْرُ‏.‏

‏[‏الْقِسْمُ الثَّانِي‏:‏ زِيَادَةُ الْوَاوِ‏]‏

الزَّائِدُ الثَّانِي الْوَاوُ، وَحِكْمَةُ زِيَادَتِهَا أَوَحَذْفِهَا زِيدَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ظُهُورِ مَعْنَى الْكَلِمَةِ فِي الْوُجُودِ، فِي أَعْظَمِ رُتْبَةٍ فِي الْعَيَانِ، مِثْلُ‏:‏ ‏{‏سَأُورِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 145‏)‏، ‏{‏سَأُورِيكُمْ آيَاتِي‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 37‏)‏، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْآيَتَيْنِ جَاءَتَا لِلتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ‏.‏

وَكَذَلِكَ ‏{‏أُولِي‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 179‏)‏، وَ‏{‏أُولُوا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 269‏)‏، وَ‏{‏أُولَاتُ‏}‏ ‏(‏الطَّلَاقِ‏:‏ 4‏)‏ زِيدَتِ الْوَاوُ بَعْدَ الْهَمْزَةِ حَيْثُ وَقَعَتْ لِقُوَّةِ الْمَعْنَى عَلَى ‏"‏ أَصْحَابِ ‏"‏، فَإِنَّ فِي أُولِي مَعْنَى الصُّحْبَةِ، وَزِيَادَةَ التَّمْلِيكِ وَالْوِلَايَةِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ زِيدَتْ فِي‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 5‏)‏ وَ‏{‏أُولَئِكُمْ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 91‏)‏ حَيْثُ وَقَعَا بِالْوَاوِ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ مُبْهَمٌ يَظْهَرُ فِيهِ مَعْنَى الْكَثْرَةِ الْحَاضِرَةِ فِي الْوُجُودِ، وَلَيْسَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ‏(‏أُولَئِكَ‏)‏ كَمَا قَالَهُ قَوْمٌ لِانْتِقَاضِهِ بِأُولَا‏.‏

‏[‏الْقِسْمُ الثَّالِثُ‏:‏ زِيَادَةُ الْيَاءِ‏]‏

الزَّائِدُ الثَّالِثُ الْيَاءُ، وَحِكْمَةُ زِيَادَتِهَا أَوَحَذْفِهَا زِيدَتْ عَلَامَةً لِاخْتِصَاصٍ مَلَكُوتِيٍّ بَاطِنٍ؛ وَذَلِكَ فِي تِسْعَةِ مَوَاضِعَ كَمَا قَالَهُ فِي الْمُقْنِعِ‏:‏ ‏{‏أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 144‏)‏‏.‏ ‏{‏مِنْ نَبَإِي الْمُرْسَلِينَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 34‏)‏، ‏{‏مِنْ تِلْقَائِ نَفْسِي‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 15‏)‏، ‏{‏وَإِيتَائِ ذِي الْقُرْبَى‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 90‏)‏، ‏{‏وَمِنْ آنَائِ اللَّيْلِ‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 130‏)‏، ‏{‏أَفَإِينْ مِتَّ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 34‏)‏، ‏{‏أَوْ مِنْ وَرَائِ حِجَابٍ‏}‏ ‏(‏الشُّورَى‏:‏ 51‏)‏، ‏{‏وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ‏}‏ ‏(‏الذَّارِيَاتِ‏:‏ 47‏)‏، وَ ‏{‏بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ‏}‏ ‏(‏الْقَلَمِ‏:‏ 6‏)‏‏.‏

قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُرَّاكِشِيُّ‏:‏ إِنَّمَا كُتِبَتْ ‏{‏بِأَيْيدٍ‏}‏ ‏(‏الذَّارِيَاتِ‏:‏ 47‏)‏ بِيَاءَيْنِ فَرْقًا بَيْنَ ‏{‏الْأَيْدِ‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 17‏)‏ الَّذِي هُوَ الْقُوَّةُ، وَبَيْنَ الْأَيْدِي جَمْعِ يَدٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقُوَّةَ الَّتِي بَنَى اللَّهُ بِهَا السَّمَاءَ هِيَ أَحَقُّ بِالثُّبُوتِ فِي الْوُجُودِ مِنَ الْأَيْدِي، فَزِيدَتِ الْيَاءُ لِاخْتِصَاصِ اللَّفْظَةِ بِمَعْنًى أَظْهَرَ فِي إِدْرَاكِ الْمَلَكُوتِيِّ فِي الْوُجُودِ‏.‏

وَكَذَلِكَ زِيدَتْ بَعْدَ الْهَمْزَةِ فِي حَرْفَيْنِ‏:‏ ‏{‏أَفَإِينْ مَاتَ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 144‏)‏،‏)‏ أَفَإِينْ مِتَّ ‏(‏‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 34‏)‏، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَوْتَهُ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَالشَّرْطُ لَا يَكُونُ مَقْطُوعًا بِهِ، وَلَا مَا رُتِّبَ عَلَى الشَّرْطِ هُوَ جَوَابٌ لَهُ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ خُلُودُ غَيْرِهِ وَلَا رُجُوعُهُ عَنِ الْحَقِّ، فَتَقْدِيرُهُ‏:‏ أَهُمُ الْخَالِدُونَ إِنْ مِتَّ‏؟‏‏!‏ فَاللَّفْظُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَالرَّبْطِ، وَالْمَعْنَى لِلْإِنْكَارِ وَالنَّفْيِ، فَزِيدَتِ الْيَاءُ لِخُصُوصِ هَذَا الْمَعْنَى الظَّاهِرِ لِلْفَهْمِ الْبَاطِنِ فِي اللَّفْظِ الْمُرَكَّبِ‏.‏

وَكَذَلِكَ زِيدَتْ بَعْدَ الْهَمْزَةِ فِي آخِرِ الْكَلِمَةِ فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ، فِي الْأَنْعَامِ‏:‏ ‏{‏مِنْ نَبَائِ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 34‏)‏ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا أَنْبَاءٌ بِاعْتِبَارِ أَخْبَارٍ، وَهَى مَلَكُوتِيَّةٌ ظَاهِرَةٌ‏.‏

وَكَذَلِكَ ‏{‏بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ‏}‏ ‏(‏الْقَلَمِ‏:‏ 6‏)‏ كُتِبَتْ بِيَاءَيْنِ، تَخْصِيصًا لَهُمْ بِالصِّفَةِ لِحُصُولِ ذَلِكَ، وَتَحَقُّقِهِ فِي الْوُجُودِ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الْمَفْتُونُونَ دُونَهُ، فَانْفَصَلَ حَرْفُ ‏"‏ أَيِّ ‏"‏ بِيَاءَيْنِ لِصِحَّةِ هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ قَطْعًا، لَكِنَّهُ بَاطِنٌ فَهُوَ مَلَكُوتِيٌّ، وَإِنَّمَا جَاءَ اللَّفْظُ بِالْإِبْهَامِ عَلَى أُسْلُوبِ الْمُجَامَلَةِ فِي الْكَلَامِ، وَالْإِمْهَالِ لَهُمْ؛ لِيَقَعَ التَّدَبُّرُ وَالتَّذَاكُرُ، كَمَا جَاءَ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏(‏سَبَأٍ‏:‏ 24‏)‏، وَمَعْلُومٌ أَنَّا عَلَى هُدًى، وَهُمْ عَلَى ضَلَالٍ‏.‏

‏[‏النَّاقِصُ وَأَقْسَامُهُ‏]‏

‏[‏الْقِسْمُ الْأَوَّلُ‏:‏ حَذْفُ الْأَلِفِ‏]‏

الْوَجْهُ الثَّانِي مَا نَقَصَ عَنِ اللَّفْظِ فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ وَحِكْمَتُهُ

وَيَأْتِي فِيهِ أَيْضًا الْأَقْسَامُ السَّابِقَةُ‏:‏

الْأَوَّلُ الْأَلِفُ أَيْ حَذْفُهَا فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ‏:‏ كُلُّ أَلِفٍ تَكُونُ فِي كَلِمَةٍ لِمَعْنًى لَهُ تَفْصِيلٌ فِي الْوُجُودِ لَهُ اعْتِبَارَانِ‏:‏

اعْتِبَارٌ مِنْ جِهَةٍ مَلَكُوتِيَّةٍ، أَوْ صِفَاتٍ حَالِيَّةٍ، أَوْ أُمُورٍ عُلْوِيَّةٍ مِمَّا لَا يُدْرِكُهُ الْحِسُّ، فَإِنَّ الْأَلِفَ تُحْذَفُ فِي الْخَطِّ عَلَامَةً لِذَلِكَ، وَاعْتِبَارٌ مِنْ جِهَةٍ مِلْكِيَّةٍ حَقِيقِيَّةٍ فِي الْعِلْمِ، أَوْ أُمُورٍ سُفْلِيَّةٍ؛ فَإِنَّ الْأَلِفَ تُثْبَتُ‏.‏

وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ فِي لَفْظَتَيِ الْقُرْآنِ وَالْكِتَابِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ تَفْصِيلُ الْآيَاتِ الَّتِي أُحْكِمَتْ فِي الْكِتَابِ، فَالْقُرْآنُ أَدْنَى إِلَيْنَا فِي الْفَهْمِ مِنَ الْكِتَابِ وَأَظْهَرُ فِي التَّنْزِيلِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هُودٍ‏:‏ ‏{‏الر كِتَبٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 1‏)‏، وَقَالَ فِي فُصِّلَتْ‏:‏ ‏{‏كِتَبٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 3‏)‏، وَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ‏}‏ ‏(‏الْقِيَامَةِ‏:‏ 17‏)‏؛ وَلِذَلِكَ ثَبَتَ فِي الْخَطِّ أَلِفُ الْقُرْآنِ، وَحُذِفَتْ أَلِفُ الْكِتَابِ‏.‏

وَقَدْ حُذِفَتْ أَلِفُ الْقُرْآنِ فِي حَرْفَيْنِ؛ هُوَ فِيهِمَا مُرَادِفٌ لِلْكِتَابِ فِي الِاعْتِبَارِ؛ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُوسُفَ‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْءَنًا عَرَبِيًّا‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 2‏)‏، وَفَى الزُّخْرُفِ‏:‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَنًا عَرَبِيًّا‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 3‏)‏، وَالضَّمِيرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ضَمِيرُ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ‏.‏ وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏، فَقَرِينَتُهُ هِيَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِيَّةِ‏.‏ وَقَالَ فِي الزُّخْرُفِ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَبِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 4‏)‏‏.‏

وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ ‏"‏ الْكِتَابِ ‏"‏، وَ ‏"‏ كِتَابٍ ‏"‏؛ فَبِغَيْرِ أَلِفٍ إِلَّا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ وَهِيَ مُقَيَّدَةٌ بِأَوْصَافٍ خَصَّصْتُهُ مِنَ الْكِتَابِ الْكُلِّيِّ‏:‏ فِي الرَّعْدِ‏:‏ ‏{‏لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 38‏)‏، فَإِنَّ هَذَا كِتَابُ الْآجَالِ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْكِتَابِ الْمُطْلَقِ أَوِ الْمُضَافِ إِلَى اللَّهِ‏.‏

وَفَى الْحِجْرِ‏:‏ ‏{‏وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 4‏)‏، فَإِنَّ هَذَا كِتَابُ إِهْلَاكِ الْقُرَى، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ كِتَابِ الْآجَالِ‏.‏

وَفَى الْكَهْفِ‏:‏ ‏{‏وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 27‏)‏ فَإِنَّ هَذَا أَخَصُّ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَبِ‏}‏ ‏(‏الْعَنْكَبُوتِ‏:‏ 45‏)‏؛ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ هَذَا، وَقَيَّدَ ذَلِكَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الِاسْمِ الْمُضَافِ إِلَى مَعْنًى فِي الْوُجُودِ، وَالْأَخَصُّ أَظْهَرُ تَنْزِيلًا‏.‏

وَفَى النَّمْلِ‏:‏ ‏{‏تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 1‏)‏ هَذَا الْكِتَابُ جَاءَ تَابِعًا لِلْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ جَاءَ تَابِعًا لِلْكِتَابِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحِجْرِ‏:‏ ‏{‏تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَبِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 1‏)‏، فَمَا فِي النَّمْلِ لَهُ خُصُوصُ تَنْزِيلٍ مَعَ الْكِتَابِ الْكُلِّيِّ، فَهُوَ تَفْصِيلٌ لِلْكِتَابِ الْكُلِّيِّ بِجَوَامِعِ كُلِّيَّتِهِ‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ حَذْفُ الْأَلِفِ فِي‏:‏ ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ‏}‏ تَنْبِيهًا عَلَى عُلُوِّهِ فِي أَوَّلِ رُتْبَةِ الْأَسْمَاءِ وَانْفِرَادِهِ، وَأَنَّ عَنْهُ انْقَضَتِ الْأَسْمَاءُ؛ فَهُوَ بِكُلِّيِّهَا؛ يَدُلُّ عَلَيْهِ إِضَافَتُهُ إِلَى اسْمِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ جَامِعٌ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، أَوَّلَهَا، وَلِهَذَا لَمْ يَتَسَمَّ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ أَسْمَائِهِ، فَلِهَذَا ظَهَرَتِ الْأَلِفُ مَعَهَا تَنْبِيهًا عَلَى ظُهُورِ التَّسْمِيَةِ فِي الْوُجُودِ، وَحُذِفَتِ الْأَلِفُ الَّتِي قَبْلَ الْهَاءِ مِنِ اسْمِ اللَّهِ، وَأُظْهِرَتِ الَّتِي مَعَ اللَّامِ مِنْ أَوَّلِهِ، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ جِهَةِ التَّعْرِيفِ وَالْبَيَانِ، الْبَاطِنُ مِنْ جِهَةِ الْإِدْرَاكِ وَالْعَيَانِ‏.‏

وَكَذَلِكَ حُذِفَتِ الْأَلِفُ قَبْلَ النُّونِ مِنِ اسْمِهِ‏:‏ الرَّحْمَنُ أَيْ فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ حَيْثُ وَقَعَ، بَيَانًا لِأَنَّا نَعْلَمُ حَقَائِقَ تَفْصِيلِ رَحْمَتِهِ فِي الْوُجُودِ، فَلَا يُفْرَقُ فِي عِلْمِنَا بَيْنَ الْوَصْفِ وَالصِّفَةِ، وَإِنَّمَا الْفُرْقَانُ فِي التَّسْمِيَةِ وَالِاسْمِ لَا فِي مَعَانِي الْأَسْمَاءِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِالتَّسْمِيَةِ، بَلْ نُؤْمِنُ بِهَا إِيمَانًا مُفَوَّضًا فِي عِلْمِ حَقِيقَتِهِ إِلَيْهِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَعُلَمَاءُ الظَّاهِرِ يَقُولُونَ‏:‏ لِلِاخْتِصَارِ وَكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْجَلَالَةِ الشَّرِيفَةِ، فَإِنَّ هَمْزَةَ الْوَصْلِ النَّاقِصَةَ مِنَ اللَّفْظِ فِي الدَّرْجِ تُثْبَتُ خَطًّا إِلَّا فِي الْبَسْمَلَةِ، وَفِي قَوْلِهِ فِي هُودٍ‏:‏ ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 41‏)‏، وَلَا تُحْذَفُ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ‏:‏

أَنْ تُضَافَ إِلَى اسْمِ اللَّهِ- وَلِهَذَا أُثْبِتَتْ فِي‏:‏ ‏{‏بِاسْمِ رَبِّكَ‏}‏ ‏(‏الْعَلَقِ‏:‏ 1‏)‏، وَأَنْ تَكُونَ قَبْلَهُ الْبَاءُ، وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْكِسَائِيُّ الثَّانِيَ، فَجَوَّزَ حَذْفَهَا كَمَا تُحْذَفُ فِي ‏"‏ بِسْمِ الْمَلِكِ ‏"‏، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْأَوَّلِ‏.‏

وَكَذَلِكَ حَذْفُ الْأَلِفِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ أَيْ فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ مِثْلُ‏:‏ ‏(‏‏(‏قَدِرٌ‏)‏‏)‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 37‏)‏، وَ ‏{‏عَلِمُ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 73‏)‏، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأَلِفَ فِي وَسَطِ الْكَلِمَةِ‏.‏

وَكَذَلِكَ الْأَلِفُ الزَّائِدَةُ فِي الْجُمُوعِ السَّالِمَةِ وَالْمُكَسَّرَةِ، مِثْلُ ‏{‏الْقَنِتِينَ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 17‏)‏، ‏{‏وَالْأَبْرَرِ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 193‏)‏، وَ ‏{‏الْجَلَلِ‏}‏ ‏(‏الرَّحْمَنِ‏:‏ 27‏)‏ وَ ‏{‏الْإِكْرَمِ‏}‏ ‏(‏الرَّحْمَنِ‏:‏ 27‏)‏، وَ‏{‏اخْتَلَفَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 164‏)‏ وَ ‏(‏‏(‏اسْتِكْبَرًا‏)‏‏)‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 43‏)‏ فَإِنَّهَا كُلَّهَا وَرَدَتْ لِمَعْنًى مُفَصَّلٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مَعْنَى تِلْكَ اللَّفْظَةِ، فَتُحْذَفُ حَيْثُ يُبْطَنُ التَّفْصِيلُ، وَتُثْبَتُ حَيْثُ يُظْهَرُ‏.‏

وَكَذَلِكَ أَلِفُ الْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّةِ كَـ‏{‏إِبْرَهِيمَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 124‏)‏؛ لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ لِمَعْنًى غَيْرِ ظَاهِرٍ فِي لِسَانِ الْعَرَبِيِّ؛ لِأَنَّ الْعَجَمِيَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرَبِيِّ بَاطِنٌ خَفِيٌّ لَا ظُهُورَ لَهُ فَحُذِفَتْ أَلِفُهُ‏.‏

قَالَ أَبُو عَمْرٍو‏:‏ اتَّفَقُوا عَلَى حَذْفِ الْأَلِفِ مِنَ الْأَعْلَامِ الْأَعْجَمِيَّةِ كَـ‏{‏إِبْرَهِيمَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 124‏)‏، وَ‏{‏إِسْمَعِيلَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 125‏)‏، وَ‏{‏إِسْحَقَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 133‏)‏، وَ‏{‏هَرُونَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 248‏)‏، وَ‏{‏لُقْمَنَ‏}‏ ‏(‏لُقْمَانَ‏:‏ 12‏)‏، وَأَمَّا حَذْفُهَا مِنْ ‏{‏سُلَيْمَنَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 102‏)‏، وَ‏{‏صَلِحُ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 77‏)‏، وَ‏{‏مَلِكُ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 77‏)‏- وَلَيْسَتْ بِأَعْجَمِيَّةٍ- فَلِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَكْثُرِ اسْتِعْمَالُهُ مِنَ الْأَعْجَمِيَّةِ فَبِالْأَلِفِ، كَـ ‏{‏طَالُوتَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 247‏)‏، وَ‏{‏جَالُوتَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 249‏)‏، وَ‏{‏يَأْجُوجَ‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 94‏)‏، وَ‏{‏مَأْجُوجَ‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 94‏)‏‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْمَصَاحِفُ فِي أَرْبَعَةٍ‏:‏ ‏{‏هَارُوتَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 102‏)‏، وَ‏{‏مَارُوتَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 102‏)‏، وَ‏{‏هَامَانَ‏}‏ ‏(‏الْقَصَصِ‏:‏ 6‏)‏، وَ‏{‏قَارُونَ‏}‏ ‏(‏الْقَصَصِ‏:‏ 76‏)‏، فَأَمَّا ‏{‏دَاوُدُ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 251‏)‏، فَلَا خِلَافَ فِي رَسْمِهِ بِالْأَلِفِ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ حَذَفُوا مِنْهُ وَاوًا، فَلَمْ يُجْحِفُوا بِحَذْفِ أَلِفٍ أُخْرَى، وَمِثْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِسْرَائِيلَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 40‏)‏ تُرْسَمُ بِالْأَلِفِ؛ لِأَنَّهُ حَذَفَ مِنْهُ الْيَاءَ‏.‏

وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى حَذْفِ الْأَلِفِ فِي جَمْعِ السَّلَامَةِ، مُذَكَّرًا كَانَ كَـ‏{‏الْعَلَمِينَ‏}‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 2‏)‏؛ وَ‏{‏الصَّبِرِينَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 153‏)‏؛ وَ‏{‏الصَّدِقِينَ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 17‏)‏، أَوْ مُؤَنَّثًا كَـ‏{‏الْمُسْلِمَتِ‏}‏ ‏(‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 35‏)‏، وَ‏{‏الْمُؤْمِنَتِ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 25‏)‏، وَ‏{‏الطَّيِّبَتِ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 4‏)‏، وَ‏{‏الْخَبِيثَتِ‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 26‏)‏، فَإِنْ جَاءَ بَعْدَ الْأَلِفِ هَمْزَةٌ أَوْ حَرْفٌ مُضَعَّفٌ ثَبَتَتِ الْأَلِفُ، نَحْوُ‏:‏ ‏{‏السَّائِلِينَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 177‏)‏، وَ‏{‏الصَّائِمِينَ‏}‏ ‏(‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 35‏)‏، وَ‏{‏الظَّانِّينَ‏}‏ ‏(‏الْفَتْحِ‏:‏ 6‏)‏، وَ‏{‏الضَّالِّينَ‏}‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 7‏)‏ وَ‏{‏حَافِّينَ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 75‏)‏ وَنَحْوُهُ‏.‏

قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ‏:‏ وَقَدْ تَكُونُ الصِّفَةُ مَلَكُوتِيَّةً رُوحَانِيَّةً، وَتُعْتَبَرُ مِنْ جِهَةٍ مَرْتَبَةً سُفْلَى مِلْكِيَّةً، هِيَ أَظْهَرُ فِي الِاسْمِ، فَتُثْبَتُ الْأَلِفُ؛ كَالْـ ‏{‏أَوَّابٌ‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 17‏)‏، وَ‏{‏الْخِطَابِ‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 20‏)‏ وَالْـ ‏{‏عَذَابٌ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 7‏)‏، وَ‏{‏أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 75‏)‏، وَ‏{‏الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ‏}‏ ‏(‏النَّاسِ‏:‏ 4‏)‏‏.‏

وَقَدْ تَكُونُ مِلْكِيَّةً جُثْمَانِيَّةً، وَتُعْتَبَرُ مِنْ جِهَةٍ مَرْتَبَةً عُلْيَا مَلَكُوتِيَّةً هِيَ أَظْهَرُ فِي الِاسْمِ فَتُحْذَفُ الْأَلِفُ كَـ‏{‏الْمِحْرَبَ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 37‏)‏، وَلِأَجْلِ هَذَا التَّدَاخُلِ يَغْمُضُ ذَلِكَ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَدَبُّرٍ وَفَهْمٍ‏.‏

وَمِنْهُ مَا يَكُونُ ظَاهِرَ الْفُرْقَانِ، كَـ ‏{‏الْأَخْيَارِ‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 47‏)‏، وَ‏{‏الْأَشْرَارِ‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 62‏)‏ تُحْذَفُ مِنَ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي‏.‏

وَمِنْهُ مَا يَخْفَى كَـ ‏{‏الْفَرَاشِ‏}‏ ‏(‏الْقَارِعَةِ‏:‏ 4‏)‏، وَ‏{‏يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ‏}‏ ‏(‏الْإِنْسَانِ‏:‏ 8‏)‏ فَالْفَرَاشُ مَحْسُوسٌ وَالطَّعَامُ ثَابِتٌ، وَوَزْنُهُمَا وَاحِدٌ؛ وَهُمَا جِسْمَانِ، لَكِنْ يُعْتَبَرُ فِي الْأَوَّلِ مَكَانُ التَّشْبِيهِ، فَإِنَّ التَّشْبِيهَ مَحْسُوسٌ، وَصِفَةَ التَّشْبِيهِ غَيْرُ مَحْسُوسٍ، فَالْمُشَبَّهُ بِهِ غَيْرُ مَحْسُوسٍ فِي حَالَةِ الشَّبَهِ، إِذْ جُعِلَ جُزْءًا مِنْ صِفَةِ الْمُشَبَّهِ بِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُسْتَفْرَشٌ مَبْثُوثٌ، لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ جِسْمٌ، وَأَمَّا الطَّعَامُ فَهُوَ الْمَحْسُوسُ الْمُعْطَى لِلْمُحْتَاجِينَ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَمُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 5‏)‏ ثُبِتَتِ الْأَلِفُ فِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ سُفْلِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى طَعَامِنَا لِمَكَانِ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِمْ فِيهِ، وَحُذِفَتْ مِنَ الثَّانِي لِأَنَّهُ عُلْوِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى طَعَامِهِمْ لِعُلُوِّ مَلَّتِنَا عَلَى مِلَّتِهِمْ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏(‏‏(‏كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَمَ‏)‏‏)‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 75‏)‏ فَحُذِفَتْ لِعُلُوِّ هَذَا الطَّعَامِ‏.‏

وَكَذَلِكَ ‏{‏غَلَّقَتِ الْأَبْوَبَ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 23‏)‏ غَلَّقَتْ‏:‏ فِيهِ التَّكْثِيرُ فِي الْعَمَلِ، فَيَدْخُلُ بِهِ أَيْضًا مَا لَيْسَ بِمَحْسُوسٍ مِنْ أَبْوَابِ الِاعْتِصَامِ، فَحُذِفَتِ الْأَلِفُ لِذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ‏:‏ ‏{‏وَاسْتَبَقَا الْبَابَ‏}‏، ‏{‏وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 25‏)‏، فَأَفْرَدَ الْبَابَ الْمَحْسُوسَ مِنْ أَبْوَابِ الِاعْتِصَامِ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏وَفُتِحَتْ أَبْوَبُهَا‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 73‏)‏؛ مَحْذُوفٌ لِأَنَّهَا مِنْ حَيْثُ فُتِحَتْ مَلَكُوتِيَّةٌ عُلْوِيَّةٌ، وَ‏:‏ ‏{‏مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَبُ‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 50‏)‏ مِلْكِيَّةٌ مِنْ حَيْثُ هِيَ لَهُمْ، فَثَبَتَتِ الْأَلِفُ، وَ‏:‏ ‏{‏قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 72‏)‏ ثَابِتَةٌ لِأَنَّهَا مِنْ جِهَةِ دُخُولِهِمْ مَحْسُوسَةٌ سُفْلِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ‏}‏ ‏(‏الْحِجْرِ‏:‏ 44‏)‏ مِنْ حَيْثُ حَصْرُهَا الْعَدَدَ فِي الْوُجُودِ، مِلْكِيَّةٌ فَثَبَتَتِ الْأَلِفُ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏الْجَرَادَ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 133‏)‏ وَ‏{‏الضَّفَادِعَ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 133‏)‏، الْأَوَّلُ ثَابِتٌ، فَهُوَ الَّذِي فِي الْوَاحِدَةِ الْمَحْسُوسَةِ، وَالثَّانِي مَحْذُوفٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوَاحِدَةِ الْمَحْسُوسَةِ، وَالْجَمْعُ هُنَا مَلَكُوتِيٌّ مِنْ حَيْثُ هُوَ آيَةٌ‏.‏

وَكَذَلِكَ ‏{‏أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَلَكُمْ‏}‏ ‏(‏الْوَاقِعَةِ‏:‏ 61‏)‏ حُذِفَتْ لِأَنَّهَا أَمْثَالٌ كُلِّيَّةٌ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهَا لِلْفَهْمِ جِهَةُ التَّمَاثُلِ؛ وَ‏{‏كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ‏}‏ ‏(‏الْوَاقِعَةِ‏:‏ 23‏)‏ ثَابِتُ الْأَلِفِ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِلْفَهْمِ جِهَةُ التَّمَاثُلِ، وَهُوَ الْبَيَاضُ وَالصَّفَاءُ‏.‏ ‏{‏كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَلَهُمْ‏}‏ ‏(‏مُحَمَّدٍ‏:‏ 3‏)‏ حُذِفَتْ لِلْعُمُومِ، وَ‏:‏ ‏{‏انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ ‏{‏ثَابِتٌ فِي الْفُرْقَانِ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 9‏)‏؛ لِأَنَّهَا الْمَذْكُورَةَ حِسِّيَّةٌ مُفَصَّلَةٌ، وَمَحْذُوفَةٌ فِي الْإِسْرَاءِ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 48‏)‏ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُفَصَّلَةٍ بَاطِنَةٌ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَحِدَةٌ‏}‏ ‏(‏الْحَاقَّةِ‏:‏ 13‏)‏، وَ‏{‏فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً‏}‏ ‏(‏الْحَاقَّةِ‏:‏ 14‏)‏؛ الْأُولَى مَحْذُوفَةٌ؛ لِأَنَّهَا رُوحَانِيَّةٌ لَا تُعْلَمُ إِلَّا إِيمَانًا، وَالثَّانِيَةُ ثَابِتَةٌ لِأَنَّهَا جُسْمَانِيَّةٌ يُتَصَوَّرُ أَمْثَالُهَا مِنَ الْهَوَى‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏كِتَبِيَهْ‏}‏ ‏(‏الْحَاقَّةِ‏:‏ 25‏)‏ مَحْذُوفَةٌ لِأَنَّهُ مَلَكُوتِيٌّ، وَ‏{‏حِسَابِيَهْ‏}‏ ‏(‏الْحَاقَّةِ‏:‏ 26‏)‏ ثَابِتَةٌ، لِأَنَّهَا مِلْكِيَّةٌ، وَهُمَا مَعًا فِي مَوْطِنِ الْآخِرَةِ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏(‏‏(‏الْقَضِيَةَ‏)‏‏)‏ ‏(‏الْحَاقَّةِ‏:‏ 27‏)‏ مَلَكُوتِيَّةٌ، وَ‏{‏وَمَالِيَهْ‏}‏ ‏(‏الْحَاقَّةِ‏:‏ 28‏)‏ مُلْكِيٌّ مَحْسُوسٌ، فَحُذِفَ الْأَوَّلُ وَثَبَتَ الثَّانِي‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏(‏‏(‏وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَلُوتَ‏)‏‏)‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 250‏)‏ حُذِفَ لِأَنَّهُ الِاسْمُ، ‏{‏وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةَ‏:‏ 251‏)‏ ثَبَتَ لِأَنَّهُ مُجَسَّدٌ مَحْسُوسٌ فَحُذِفَ الْأَوَّلُ وَثَبَتَ الثَّانِي‏.‏

وَكَذَلِكَ ‏{‏سُبْحَنَ‏}‏ حُذِفَتْ لِأَنَّهُ مَلَكُوتِيٌّ إِلَّا حَرْفًا وَاحِدًا وَاخْتُلِفَ فِيهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 93‏)‏ فَمَنْ أَثْبَتَ الْأَلِفَ قَالَ‏:‏ هَذَا تَبْرِئَةٌ مِنْ مَقَامِ الْإِسْلَامِ، وَحَصْرِهِ الْأَجْسَامَ، صُدِّرَ بِهِ مُجَاوَبَةً لِلْكُفَّارِ فِي مُوَاطِنِ الرَّدِّ وَالْإِنْكَارِ‏.‏ وَمَنْ أَسْقَطَ فَلِعُلُوِّ حَالِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يَشْغَلُهُ عَنِ الْحُضُورِ تَقَلُّبُهُ فِي الْمَلَكُوتِ الْخِطَابِ فِي الْمُلْكِ وَهُوَ أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَثَةٍ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 73‏)‏، ثَبَتَتْ أَلِفُ ‏{‏ثَالِثُ‏}‏ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ أَحَدَ ثَلَاثَةٍ مُفَصَّلَةٍ، فَثَبَتَتِ الْأَلِفُ عَلَامَةً لِإِظْهَارِهِمُ التَّفْصِيلَ فِي الْإِلَهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ‏!‏ وَحُذِفَتْ أَلِفُ ‏{‏ثَلَثَةٍ‏}‏ لِأَنَّهُ اسْمُ الْعَدَدِ الْوَاحِدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 73‏)‏ حُذِفَتْ مِنْ ‏(‏إِلَهٍ‏)‏، وَثَبَتَتْ فِي ‏(‏وَاحِدٌ‏)‏ أَلِفُهُ، لِأَنَّهُ إِلَهٌ فِي مَلَكُوتِهِ، تَعَالَى عَنْ أَنْ تُعْرَفَ صِفَتُهُ بِإِحَاطَةِ الْإِدْرَاكِ، وَاحِدٌ فِي مُلْكِهِ، تَنَزَّهَ بِوَحْدَةِ أَسْمَائِهِ عَنِ الِاعْتِضَادِ وَالِاشْتِرَاكِ هَذَا مِنْ جِهَةِ إِدْرَاكِنَا، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ مَا هِيَ عَلَيْهِ الصِّفَةُ فِي نَفْسِهَا فَلَا يُدْرَكُ ذَلِكَ، بَلْ يُسَلَّمُ عِلْمُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَتُحْذَفُ‏.‏

وَكَذَلِكَ سَقَطَتِ الْأَلِفُ الزَّائِدَةُ لِتَطْوِيلِ هَاءِ التَّنْبِيهِ فِي النِّدَاءِ فِي ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ‏:‏ ‏{‏أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 31‏)‏، وَ‏{‏أَيُّهَ السَّاحِرُ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 49‏)‏، وَ‏{‏أَيُّهَ الثَّقَلَانِ‏}‏ ‏(‏الرَّحْمَنِ‏:‏ 31‏)‏، وَالْبَاقِي بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ، وَالسِّرُّ فِي سُقُوطِهَا فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَعْنَى الِانْتِهَاءِ إِلَى غَايَةٍ لَيْسَ وَرَاءَهَا فِي الْفَهْمِ رُتْبَةٌ يَمْتَدُّ النِّدَاءُ إِلَيْهَا، وَتَنْبِيهٌ عَلَى الِاقْتِصَارِ وَالِاقْتِصَادِ مِنْ حَالِهِمْ وَالرُّجُوعِ إِلَى مَا يَنْبَغِي‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 31‏)‏ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كُلُّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْعُمُومِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِيهِمْ‏.‏ وَقَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 33‏)‏، وَقَوْلِ فِرْعَوْنَ‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 49‏)‏ يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ عِلْمِهِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ‏}‏ ‏(‏الرَّحْمَنِ‏:‏ 31‏)‏، فَإِقَامَةُ الْوَصْفِ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ الصِّفَةِ الْمِلْكِيَّةِ، فَإِنَّهَا تَقْتَضِي جَمِيعَ الصِّفَاتِ الْمَلَكُوتِيَّةِ وَالْجَبَرُوتِيَّةِ، فَلَيْسَ بَعْدَهَا رُتْبَةٌ أَظْهَرُ فِي الْفَهْمِ عَلَى مَا يَنْبَغِي لَهُمْ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى اعْتِبَارِ آلَاءِ اللَّهِ فِي بَيَانِ النِّعَمِ لِيَشْكُرُوا وَبَيَانِ النِّقَمِ لِيَحْذَرُوا‏.‏

وَكَذَلِكَ حُذِفَتِ الْأَلِفُ الْآتِيَةُ لِمَدِّ الصَّوْتِ بِالنِّدَاءِ، مِثْلُ ‏{‏يَقَوْمِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 54‏)‏، ‏{‏يَعِبَادِ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 10‏)‏؛ لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ لِلتَّوَصُّلِ بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَيْسَ بِصِفَةٍ مَحْسُوسَةٍ فِي الْوُجُودِ‏.‏

قَالَ أَبُو عَمْرٍو‏:‏ كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ ‏(‏آيَاتِنَا‏)‏ فَبِغَيْرِ الْأَلِفِ، إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ‏:‏ ‏{‏فِي آيَاتِنَا‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 21‏)‏، وَ‏{‏آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 15‏)‏‏.‏

وَكُلُّ مَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ ‏[‏أَيُّهَا‏]‏ فَبِالْأَلِفِ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مَحْذُوفَةِ الْأَلِفِ‏:‏ فِي النُّورِ‏:‏ ‏{‏أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 31‏)‏، وَفِي الزُّخْرُفِ‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَ السَّاحِرُ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 49‏)‏، وَفِي الرَّحْمَنِ‏:‏ ‏{‏أَيُّهَ الثَّقَلَانِ‏}‏ ‏(‏الرَّحْمَنِ‏:‏ 31‏)‏‏.‏

وَكُلُّ مَا فِيهِ مِنْ سَاحِرٍ فَبِغَيْرِ الْأَلِفِ إِلَّا فِي وَاحِدٍ؛ فِي الذَّارِيَاتِ‏:‏ ‏{‏وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ‏}‏ ‏(‏الذَّارِيَاتِ‏:‏ 39‏)‏‏.‏

‏[‏الْقِسْمُ الثَّانِي‏:‏ حَذْفُ الْوَاوِ‏]‏

الثَّانِي حَذْفُ الْوَاوِ اكْتِفَاءً بِالضَّمَّةِ قَصْدًا لِلتَّخْفِيفِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ وَاوَانِ وَالضَّمُّ، فَتُحْذَفُ الْوَاوُ الَّتِي لَيْسَتْ عُمْدَةً، وَتَبْقَى الْعُمْدَةُ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْكَلِمَةُ فِعْلًا، مِثْلَ‏:‏ ‏{‏لِيَسُؤُا وُجُوهَكُمْ‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 7‏)‏، أَوْ صِفَةً مِثْلُ‏:‏ ‏{‏الْمَوْءُدَةُ‏}‏ ‏(‏التَّكْوِيرِ‏:‏ 8‏)‏، وَ‏{‏لَيَؤُسٌ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 9‏)‏، وَ‏{‏الْغَاوُنَ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 94‏)‏، أَوِ اسْمًا مِثْلُ ‏{‏دَاوُدُ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 251‏)‏ إِلَّا أَنْ يُنْوَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَتُثْبَتَانِ جَمِيعًا، مِثْلُ‏:‏ ‏{‏تَبَوَّءُوا‏}‏ ‏(‏الْحَشْرِ‏:‏ 9‏)‏ فَإِنَّ الْوَاوَ الْأُولَى تَنُوبُ عَنْ حَرْفَيْنِ لِأَجْلِ الْإِدْغَامِ، فَنُوِيَتْ فِي الْكَلِمَةِ، وَالْوَاوَ الثَّانِيَةَ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ فَثَبَتَا جَمِيعًا‏.‏

وَقَدْ سَقَطَتْ مِنْ أَرْبَعَةِ أَفْعَالٍ، تَنْبِيهًا عَلَى سُرْعَةِ وُقُوعِ الْفِعْلِ وَسُهُولَتِهِ عَلَى الْفَاعِلِ، وَشِدَّةِ قَبُولِ الْمُنْفَعَلِ الْمُتَأَثَّرِ بِهِ فِي الْوُجُودِ‏:‏

أَوَّلُهَا‏:‏ ‏{‏سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ‏}‏ ‏(‏الْعَلَقِ‏:‏ 18‏)‏ فِيهِ سُرْعَةُ الْفِعْلِ وَإِجَابَةُ الزَّبَانِيَةِ وَقُوَّةُ الْبَطْشِ، وَهُوَ وَعِيدٌ عَظِيمٌ ذُكِرَ مَبْدَؤُهُ وَحُذِفَ آخِرُهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ‏}‏ ‏(‏الْقَمَرِ‏:‏ 50‏)‏‏.‏

وَثَانِيهَا‏:‏ ‏{‏وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ‏}‏ ‏(‏الشُّورَى‏:‏ 24‏)‏ حُذِفَتْ مِنْهُ الْوَاوُ عَلَامَةً عَلَى سُرْعَةِ الْحَقِّ وَقَبُولِ الْبَاطِلِ لَهُ بِسُرْعَةٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 81‏)‏، وَلَيْسَ يَمْحُ مَعْطُوفًا عَلَى يَخْتِمُ الَّذِي قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ مَعَ ‏[‏يَمْحُ‏]‏ الْفَاعِلُ وَعُطِفَ عَلَى الْفِعْلِ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ‏{‏وَيُحِقُّ الْحَقَّ‏}‏ ‏(‏الشُّورَى‏:‏ 24‏)‏‏.‏

قُلْتُ‏:‏ إِنْ قِيلَ‏:‏ لِمَ رُسِمَ الْوَاوُ فِي‏:‏ ‏{‏يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ‏}‏ ‏(‏الرَّعْدِ‏:‏ 39‏)‏، وَحُذِفَتْ فِي‏:‏ ‏{‏وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ‏}‏ ‏(‏الشُّورَى‏:‏ 24‏)‏‏.‏

قُلْتُ‏:‏ لِأَنَّ الْإِثْبَاتَ الْأَصْلُ؛ وَإِنَّمَا حُذِفَتْ فِي الثَّانِيَةِ لِأَنَّ قَبْلَهُ مَجْزُومٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ عُطِفَ عَلَيْهِ‏:‏ ‏{‏وَيُحِقُّ‏}‏، وَلَيْسَ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ، وَلَكِنْ قَدْ يَجِيءُ بِصُورَةِ الْعَطْفِ عَلَى الْمَجْزُومِ وَهَذَا أَقْرَبُ مِنْ عَطْفِ الْجِوَارِ فِي النَّحْوِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

وَثَالِثُهَا‏:‏ ‏{‏وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 11‏)‏ حَذْفُ الْوَاوِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَهْلٌ عَلَيْهِ وَيُسَارِعُ فِيهِ، كَمَا يَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ، وَإِتْيَانُ الشَّرِّ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ ذَاتِهِ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ‏.‏

وَرَابِعُهَا‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ‏}‏ ‏(‏الْقَمَرِ‏:‏ 6‏)‏ حَذْفُ الْوَاوِ لِسُرْعَةِ الدُّعَاءِ وَسُرْعَةِ الْإِجَابَةِ

‏[‏الْقِسْمُ الثَّالِثُ‏:‏ حَذْفُ الْيَاءِ‏]‏

الثَّالِثُ‏:‏ حَذْفُ الْيَاءِ وَحِكْمَةُ الْحَذْفِ فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ اكْتِفَاءً بِالْكَسْرَةِ قَبْلَهَا، نَحْوُ‏:‏ ‏{‏فَارْهَبُونِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 40‏)‏، ‏{‏فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 25‏)‏‏.‏

قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ‏:‏ الْيَاءُ النَّاقِصَةُ فِي الْخَطِّ ضَرْبَانِ‏:‏ ضَرْبٌ مَحْذُوفٌ فِي الْخَطِّ ثَابِتٌ فِي التِّلَاوَةِ، وَضَرْبٌ مَحْذُوفٌ فِيهِمَا‏.‏

فَالْأَوَّلُ هُوَ بِاعْتِبَارٍ مَلَكُوتِيٍّ بَاطِنٍ، وَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ‏:‏

مَا هُوَ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ وَمَا هُوَ لَامُ الْكَلِمَةِ‏.‏

فَالْأَوَّلُ إِذَا كَانَتِ الْيَاءُ ضَمِيرَ الْمُتَكَلِّمِ مِثْلَ ‏{‏فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ‏}‏ ‏(‏الْقَمَرِ‏:‏ 16‏)‏ ثَبَتَتِ الْيَاءُ الْأُولَى لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَلَكُوتِيٌّ وَكَذَلِكَ ‏{‏فَمَا آتَانِ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 36‏)‏ حُذِفَتِ الْيَاءُ لِاعْتِبَارِ مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ، فَهُوَ الْمُؤْتَى الْمَلَكُوتِيُّ مِنْ قِبَلِ الْآخِرَةِ، وَفَى ضِمْنِهِ الْجُسْمَانِيِّ لِلدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُ فَانٍ، وَالْأَوَّلُ ثَابِتٌ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 46‏)‏ وَعِلْمُ هَذَا الْمَسْئُولِ غَيْبٌ مَلَكُوتِيٌّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ فَهُوَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 70‏)‏، لِأَنَّ هَذَا سُؤَالٌ عَنْ حَوَادِثِ الْمِلْكِ فِي مَقَامِ الشَّاهِدِ، كَخَرْقِ السَّفِينَةِ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 71‏)‏، وَقَتْلِ الْغُلَامِ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 74‏)‏، وَإِقَامَةِ الْجِدَارِ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 77‏)‏‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 186‏)‏، فَحَذْفُ الضَّمِيرِ فِي الْخَطِّ دَلَالَةٌ عَلَى الدُّعَاءِ الَّذِي مِنْ جِهَةِ الْمَلَكُوتِ بِإِخْلَاصِ الْبَاطِنِ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 20‏)‏ هُوَ الِاتِّبَاعُ الْعِلْمِيُّ فِي دِينِ اللَّهِ ‏[‏وَطَرِيقِ الْآخِرَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ أَسْلَمْتُ لِلَّهِ، فَهُوَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 31‏)‏ فَإِنَّ هَذَا فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ بِالْجَوَارِحِ الْمَقْصُودِ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ وَطَاعَتُهُ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 14‏)‏، ثَبَتَتِ الْيَاءُ فِي الْمَقَامِ لِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى مِنْ جِهَةِ الْمِلْكِ، وَحُذِفَتْ مِنَ الْوَعِيدِ لِاعْتِبَارِهِ مَلَكُوتِيًّا، فَخَافَ الْمَقَامَ مِنْ جِهَةِ مَا ظَهَرَ لِلْأَبْصَارِ، وَخَافَ الْوَعِيدَ مِنْ جِهَةِ إِيمَانِهِ بِالْأَخْبَارِ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 62‏)‏، هُوَ التَّأْخِيرُ بِالْمُؤَاخَذَةِ لَا التَّأْخِيرُ الْجِسْمِيُّ فَهُوَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ ‏{‏لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ‏}‏ ‏(‏الْمُنَافِقُونَ‏:‏ 10‏)‏؛ لِأَنَّ هَذَا تَأْخِيرٌ جِسْمِيٌّ فِي الدُّنْيَا الظَّاهِرَةِ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 24‏)‏ سِيَاقُ الْكَلَامِ فِي أُمُورٍ مَحْسُوسَةٍ، وَالْهِدَايَةُ فِيهِ مَلَكُوتِيَّةٌ، وَقَدْ هَدَاهُ اللَّهُ فِي قِصَّةِ الْغَارِ، وَهُوَ فِي الْعَدَدِ‏:‏ ‏{‏ثَانِيَ اثْنَيْنِ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 40‏)‏، حَتَّى خَرَجَ بِدِينِهِ عَنْ قَوْمِهِ بِأَقْرَبَ مِنْ طَرِيقِ أَهْلِ الْكَهْفِ حِينَ خَرَجُوا بِدِينِهِمْ عَنْ قَوْمِهِمْ وَعُدَدِهِمْ عَلَى مَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا فِيهِ، وَهَذِهِ الْهِدَايَةُ بِخِلَافِ مَا قَالَ مُوسَى‏:‏ ‏{‏عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ‏}‏ ‏(‏الْقَصَصِ‏:‏ 22‏)‏ فَإِنَّهَا هِدَايَةُ السَّبِيلِ الْمَحْسُوسَةِ إِلَى مَدْيَنَ فِي عَالَمِ الْمِلْكِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ‏}‏ ‏(‏الْقَصَصِ‏:‏ 22‏)‏‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 66‏)‏‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَتَّبِعَانِّ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 89‏)‏ هُوَ فِي طَرِيقِ الْهِدَايَةِ لَا فِي مَسِيرِ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ، بِدَلِيلِ‏:‏ ‏{‏أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 93‏)‏ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْمَسِيرِ الْحِسِّيِّ إِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَخْلُفَهُ فِي قَوْمِهِ وَيُصْلِحَ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِ هَارُونَ‏:‏ ‏{‏فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 90‏)‏ فَإِنَّهُ اتِّبَاعٌ مَحْسُوسٌ فِي تَرْكِ مَا سِوَاهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَطِيعُوا أَمْرِي‏}‏ وَهُوَ لَا أَمْرَ لَهُ إِلَّا الْحِسِّيُّ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ‏}‏ ‏(‏الْمُلْكِ‏:‏ 18‏)‏ حَيْثُ وَقَعَ، لِأَنَّ النَّكِيرَ مُعْتَبَرٌ مِنْ جِهَةِ الْمَلَكُوتِ، لَا مِنْ جِهَةِ أَثَرِهِ الْمَحْسُوسِ، فَإِنَّ أَثَرَهُ قَدِ انْقَضَى وَأُخْبِرَ عَنْهُ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي، وَالنَّكِيرُ اسْمٌ ثَابِتٌ فِي الْأَزْمَانِ كُلِّهَا، فِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ كَمَا أَخَذَ أُولَئِكَ يَأْخُذُ غَيْرَهُمْ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 12‏)‏ خَافَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُكَذِّبُوهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ مِنْ قِبَلِهِ، مِنْ جِهَةِ إِفْهَامِهِ لَهُمْ بِالْوَحْيِ، فَإِنَّهُ كَانَ عَالِيَ الْبَيَانِ؛ لِأَنَّهُ كَلِيمُ الرَّحْمَنِ، فَبَلَاغَتُهُ لَا تَصِلُ إِلَيْهَا أَفْهَامُهُمْ، فَيَصِيرُ إِفْصَاحُهُ الْعَالِي عِنْدَ فَهْمِهِمُ النَّازِلِ عُقْدَةً عَلَيْهِمْ فِي اللِّسَانِ، يَحْتَاجُ إِلَى تُرْجُمَانٍ؛ فَإِنْ يَقَعْ بَعْدَهُ تَكْذِيبٌ فَيَكُونُ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ، وَبِهِ تَتِمُّ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ‏}‏ ‏(‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 56‏)‏، هُوَ الْإِرْدَاءُ الْأُخْرَوِيُّ الْمَلَكُوتِيُّ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏أَنْ تَرْجُمُونِ‏}‏ ‏(‏الدُّخَانِ‏:‏ 20‏)‏، لَيْسَ هُوَ الرَّجْمَ بِالْحِجَارَةِ، إِنَّمَا هُوَ مَا يَرْمُونَهُ مِنْ بُهْتَانِهِمْ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏فَحَقَّ وَعِيدِ‏}‏ ‏(‏ق‏:‏ 14‏)‏، ‏{‏لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 14‏)‏ هُوَ الْأُخْرَوِيُّ الْمَلَكُوتِيُّ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ‏}‏ ‏(‏الْفَجْرِ‏:‏ 15‏)‏، ‏{‏رَبِّي أَهَانَنِ‏}‏ ‏(‏الْفَجْرِ‏:‏ 16‏)‏ هَذَا الْإِنْسَانُ يَعْتَبِرُ مَنْزِلَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْمَلَكُوتِ بِمَا يَبْتَلِيهِ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا مِنَ الْإِنْسَانِ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَبْتَلِي الصَّالِحَ وَالطَّالِحَ، لِقِيَامِ حُجَّتِهِ عَلَى خَلْقِهِ‏.‏

وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ؛ إِذَا كَانَتِ الْيَاءُ لَامَ الْكَلِمَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الِاسْمِ أَوِ الْفِعْلِ نَحْوُ‏:‏ ‏{‏أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 186‏)‏ حُذِفَتْ تَنْبِيهًا عَلَى الْمُخْلِصِ لِلَّهِ الَّذِي قَلْبُهُ وَنِهَايَتُهُ فِي دُعَائِهِ فِي الْمَلَكُوتِ وَالْآخِرَةِ، لَا فِي الدُّنْيَا‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ‏}‏ ‏(‏الْقَمَرِ‏:‏ 6‏)‏ هُوَ دَاعٍ مَلَكُوتِيٌّ مِنْ عَالَمِ الْآخِرَةِ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَأْتِ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 105‏)‏، هُوَ إِتْيَانٌ مَلَكُوتِيٌّ أُخْرَوِيٌّ آخِرُهُ مُتَّصِلٌ بِمَا وَرَاءَهُ مِنَ الْغَيْبِ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏الْمُهْتَدِ‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 17‏)‏‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏وَالْبَادِ‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 25‏)‏، حُذِفَ لِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِ حَالِ الْحَاضِرِ الشَّاهِدِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهَا سِرًّا‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏كَالْجَوَابِ‏}‏ ‏(‏سَبَأٍ‏:‏ 13‏)‏، مِنْ حَيْثُ التَّشْبِيهُ، فَإِنَّهُ مَلَكُوتِيٌّ؛ إِذْ هُوَ صِفَةُ تَشْبِيهٍ لَا ظُهُورَ لَهَا فِي الْإِدْرَاكِ الْمُلْكِيِّ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ التَّلَاقِ‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 15‏)‏ وَ‏{‏التَّنَادِ‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 32‏)‏ كِلَاهُمَا مَلَكُوتِيٌّ أُخْرَوِيٌّ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ‏}‏ ‏(‏الْفَجْرِ‏:‏ 4‏)‏، وَهُوَ السُّرَى الْمَلَكُوتِيُّ الَّذِي يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِآخِرِهِ مِنْ جِهَةِ الِانْقِضَاءِ أَوْ بِمَسِيرِ النُّجُومِ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ‏}‏ ‏(‏الشُّورَى‏:‏ 32‏)‏ تُعْتَبَرُ مِنْ حَيْثُ هِيَ آيَةٌ يَدُلُّ مِلْكُهَا عَلَى مَلَكُوتِهَا فَآخِرُهَا بِالِاعْتِبَارِ يَتَّصِلُ بِالْمَلَكُوتِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ‏}‏ ‏(‏الشُّورَى‏:‏ 33‏)‏‏.‏

وَكَذَلِكَ حَذْفُ يَاءِ الْفِعْلِ مِنْ ‏(‏يُحْيِي‏)‏ إِذَا انْفَرَدَتْ، وَثَبَتَتْ مَعَ الضَّمِيرِ، مِثْلُ‏:‏ ‏{‏مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 78‏)‏، ‏{‏قُلْ يُحْيِيهَا‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 79‏)‏؛ لِأَنَّ حَيَاةَ الْبَاطِنِ أَظْهَرُ فِي الْعِلْمِ مِنْ حَيَاةِ الظَّاهِرِ، وَأَقْوَى فِي الْإِدْرَاكِ‏.‏

الضَّرْبُ الثَّانِي الَّذِي تَسْقُطُ فِيهِ الْيَاءُ فِي الْخَطِّ وَالتِّلَاوَةِ، فَهُوَ اعْتِبَارُ غَيْبَةٍ عَنْ بَابِ الْإِدْرَاكِ جُمْلَةً، وَاتِّصَالُهُ بِالْإِسْلَامِ لِلَّهِ فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ، وَهُوَ قِسْمَانِ‏:‏ مِنْهُ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ، وَمِنْهُ لَامُ الْفِعْلِ‏.‏

فَالْأَوَّلُ إِذَا كَانَتِ الْيَاءُ ضَمِيرَ الْمُتَكَلِّمِ فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ لِلْعَبْدِ فَهُوَ الْغَائِبُ، وَإِنْ كَانَتْ لِلرَّبِّ فَالْغَيْبَةُ لِلْمَذْكُورِ مَعَهَا، فَإِنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْغَائِبُ عَنِ الْإِدْرَاكِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، فَهُوَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ بِالْغَيْبِ، مُكْتَفٍ بِالْأَدِلَّةِ، فَيُقْتَصَرُ فِي الْخَطِّ لِذَلِكَ عَلَى نُونِ الْوِقَايَةِ وَالْكَسْرَةِ، وَمِنْهُ مِنْ جِهَةِ الْخِطَابِ بِهِ الْحَوَالَةُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَاتِ دُونَ تَعَرُّضٍ لِصِفَةِ الذَّاتِ‏.‏ وَلَمَّا كَانَ الْغَرَضُ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِدْلَالِ وَاعْتِبَارِ الْآيَاتِ وَضَرْبِ الْمِثَالِ دُونَ التَّعَرُّضِ لِصِفَةِ الذَّاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 28‏)‏، وَقَالَ‏:‏ ‏{‏فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 74‏)‏ كَانَ الْحَذْفُ فِي خَوَاتِمِ الْآيِ كَثِيرًا؛ مِثْلَ‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُونِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 41‏)‏، ‏{‏فَارْهَبُونِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 40‏)‏، ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏(‏الذَّارِيَاتِ‏:‏ 56‏)‏، ‏{‏وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ‏}‏ ‏(‏الذَّارِيَاتِ‏:‏ 57‏)‏، وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا‏.‏

وَكَذَلِكَ ضَمِيرُ الْعَبْدِ، مِثْلُ‏:‏ ‏{‏إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 23‏)‏ الْعَبْدُ غَائِبٌ عَنْ عِلْمِ إِرَادَةِ الرَّحْمَنَ، إِنَّمَا عِلْمُهُ بِهَا تَسْلِيمًا وَإِيمَانًا بُرْهَانِيًّا‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْعُقُودِ‏:‏ ‏{‏فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 44‏)‏ النَّاسُ كُلِّيٌّ لَا يَدُلُّ عَلَى نَاسٍ بِأَعْيَانِهِمْ وَلَا مَوْصُوفِينَ بِصِفَةٍ ‏[‏فَهُمْ كُلِّيٌّ‏]‏ وَلَا يُعْلَمُ الْكُلِّيُّ مِنْ حَيْثُ هُوَ كُلِّيٌّ، بَلْ مِنْ حَيْثُ أَثَرُ الْبَعْضِ فِي الْإِدْرَاكِ، وَلَا يُعْلَمُ الْكُلِّيُّ إِلَّا مِنْ حَيْثُ هُوَ أَثَرُ الْجُزْئِيِّ فِي الْإِدْرَاكِ، فَالْخَشْيَةُ هُنَا كُلِّيَّةٌ لِشَيْءٍ غَيْرِ مَعْلُومِ الْحَقِيقَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَحَقَّ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ حَقٌّ، وَإِنْ لَمْ نُحِطْ بِهِ عِلْمًا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ، وَلَا يُخْشَى غَيْرُهُ، وَهَذَا الْحَذْفُ بِخِلَافِ مَا جَاءَ فِي الْبَقَرَةِ‏:‏ ‏{‏فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 150‏)‏ ضَمِيرُ الْجَمْعِ يَعُودُ عَلَى ‏{‏الَّذِينَ ظَلَمُوا‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 165‏)‏ مِنَ النَّاسِ فَهُمْ بَعْضٌ لَا كُلٌّ، ظَهَرُوا فِي الْمِلْكِ بِالظُّلْمِ، فَالْخَشْيَةُ هُنَا جُزْئِيَّةٌ، فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُخْشَى مِنْ جِهَةِ مَا ظَهَرَ كَمَا يَجِبُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ مَا سَتَرَ‏.‏

وَكَذَلِكَ حُذِفَتِ الْيَاءُ مِنْ‏:‏ ‏{‏فَبَشِّرْ عِبَادِ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 17‏)‏، وَ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 10‏)‏ فَإِنَّهُ خِطَابٌ لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْخُصُوصِ، فَقَدْ تَوَجَّهَ الْخِطَابُ إِلَيْهِ فِي فَهْمِنَا، وَغَابَ الْعِبَادُ كُلُّهُمْ عَنْ عِلْمِ ذَلِكَ، فَهُمْ غَائِبُونَ عَنْ شُهُودِ هَذَا الْخِطَابِ؛ لَا يَعْلَمُونَهُ إِلَّا بِوَسَاطَةِ الرَّسُولِ‏.‏

وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏‏(‏يَا عِبَادِي لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ‏)‏‏)‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 68‏)‏ فَإِنَّهَا ثَبَتَتْ؛ لِأَنَّهُ خِطَابٌ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ غَيْرَ مَحْجُوبِينَ عَنْهُ- جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ إِنَّهُ مُنْعِمٌ كَرِيمٌ- وَثَبَتَ حَرْفُ النِّدَاءِ، فَإِنَّهُ أَفْهَمَهُمْ نِدَاءَهُ الْأُخْرَوِيَّ فِي مَوْطِنِ الدُّنْيَا، فِي يَوْمِ ظُهُورِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وَفِي مَحَلِّ أَعْمَالِهِمْ، إِلَى حُضُورِهِمْ يَوْمَ ظُهُورِهِمُ الْأُخْرَوِيَّ، بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَفِي مَحَلِّ جَزَائِهِمْ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 53‏)‏ ثَبَتَ الضَّمِيرُ وَحَرْفُ النِّدَاءِ فِي الْخَطِّ، فَإِنَّهُ دَعَاهُمْ مِنْ مَقَامِ إِسْلَامِهِمْ، وَحَضْرَةِ امْتِثَالِهِمْ إِلَى مَقَامِ إِحْسَانِهِمْ، وَمِثْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ فِي الْعَنْكَبُوتِ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 56‏)‏ فَإِنَّهُ دَعَاهُمْ مِنْ حَضَرَتِهِمْ فِي مَقَامِ إِيمَانِهِمْ، إِلَى حَضْرَتِهِمْ وَمَقَامِ إِحْسَانِهِمْ، إِلَى مَا لَا نَعْلَمُهُ مِنَ الزِّيَادَةِ بَعْدَ الْحُسْنَى‏.‏

وَكَذَلِكَ سَقَطَتَا فِي مَوْطِنِ الدُّعَاءِ مِثْلِ‏:‏ ‏{‏رَبِّ اغْفِرْ لِي‏}‏ ‏(‏نُوحٍ‏:‏ 28‏)‏ حُذِفَتِ الْيَاءُ لِعَدَمِ الْإِحَاطَةِ بِهِ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِغَيْبَتِنَا نَحْنُ عَنِ الْإِدْرَاكِ، وَحُذِفَ حَرْفُ النِّدَاءِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَيْنَا مِنْ أَنْفُسِنَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَقِيلِهِ يَا رَبِّ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 88‏)‏ فَأُثْبِتَ حَرْفُ النِّدَاءِ؛ لِأَنَّهُ دَعَا رَبَّهُ مِنْ مَرْتَبَةِ حُضُورِهِ مَعَهُمْ فِي مَقَامِ الْمِلْكِ، لِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَؤُلَاءِ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 88‏)‏ وَأُسْقِطَ حَرْفُ ضَمِيرِهِ لِمَغِيبِهِ عَنْ ذَاتِهِ فِي تَوَجُّهِهِ فِي مَقَامِ الْمَلَكُوتِ وَرُتْبَةِ إِحْسَانِهِ فِي إِسْلَامِهِ‏.‏

وَكَذَلِكَ فِي مِثْلِ‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 63‏)‏ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْهُمْ فِي خِطَابِهِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي الْإِدْرَاكِ، وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِهِمْ فِي النِّسْبَةِ الرَّابِطَةِ بَيْنَهُمْ فِي الْوُجُودِ، الْعُلْوِيَّةِ مِنَ الدَّلَائِلِ‏.‏

وَالْقِسْمُ الثَّانِي‏:‏ إِذَا كَانَتِ الْيَاءُ لَامَ الْكَلِمَةِ فِي الْفِعْلِ أَوِ الِاسْمِ؛ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ مِنْ حَيْثُ يَكُونُ مَعْنَى الْكَلِمَةِ يُعْتَبَرُ مِنْ مَبْدَئِهِ الظَّاهِرِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إِلَى مَلَكُوتِيَّةِ الْبَاطِنِ، إِلَى مَا لَا يُدْرَكُ مِنْهُ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا، فَيَكُونُ حَذْفُ الْيَاءِ مُنَبِّهًا عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكْمُلِ اعْتِبَارُهُ فِي الظَّاهِرِ مِنْ ذَلِكَ الْخِطَابِ بِحَسَبِ عَرْضِ الْخِطَابِ، مِثْلَ‏:‏ ‏{‏وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 146‏)‏، هُوَ‏{‏مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 71‏)‏، وَقَدِ ابْتَدَأَ ذَلِكَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مُتَّصِلًا بِالْآخِرَةِ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 54‏)‏ حُذِفَتْ لِأَنَّهُ يَهْدِيهِمْ بِمَا نَصَبَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْعِبَرِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، يَرْفَعُ دَرَجَاتِهِمْ فِي هِدَايَتِهِمْ إِلَى حَيْثُ لَا غَايَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ‏}‏ ‏(‏ق‏:‏ 35‏)‏، وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ‏}‏ ‏(‏الرُّومِ‏:‏ 53‏)‏ فِي الرُّومِ، هَذِهِ الْهِدَايَةُ هِيَ الْكُلِّيَّةُ عَلَى التَّفْصِيلِ بِالتَّوَالِي الَّتِي تُرَقِّي الْعَبْدَ فِي هِدَايَتِهِ مِنَ الْأَرْبَابِ إِلَى مَا يُدْرِكُهُ الْعَيَانُ لَيْسَ ذَلِكَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَيَانِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ قَبْلَهَا‏:‏ ‏{‏فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ ‏(‏الرُّومِ‏:‏ 50‏)‏ فَهَذَا النَّظَرُ مِنْ عَالَمِ الْمِلْكِ ذَاهِبًا فِي النَّظَرِ إِلَى عَالَمِ الْمَلَكُوتِ إِلَى مَا لَا يُدْرَكُ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا‏.‏ وَهَذَا بِخِلَافِ الْحَرْفِ الَّذِي فِي النَّمْلِ‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 81‏)‏ فَثَبَتَتِ الْيَاءُ لِأَنَّ هَذِهِ الْهِدَايَةَ كُلِّيَّةٌ كَامِلَةٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 79‏)‏‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏بِالْوَادِ الْمُقَدِّسِ‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 12‏)‏، وَ‏{‏الْوَادِ الْأَيْمَنِ‏}‏ ‏(‏الْقَصَصِ‏:‏ 30‏)‏ هُمَا مَبْدَأُ التَّقْدِيسِ وَالْيُمْنِ الَّذِي وُصِفَا بِهِ، فَانْتَقَلَ التَّقْدِيسُ وَالْيُمْنُ مِنْهُمَا إِلَى الْجَمَالِ، ذَاهِبًا بِهِمَا إِلَى مَا لَا يُحِيطُ بِعِلْمِهِ إِلَّا اللَّهُ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏وَادِ النَّمْلِ‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 18‏)‏ هُوَ مَوْضِعٌ لِابْتِدَاءِ سَمَاعِ الْخِطَابِ مِنْ أَخْفَضِ الْخَلْقِ- وَهَى النَّمْلَةُ- إِلَى أَعْلَاهُمْ- وَهُوَ الْهُدْهُدُ وَ الطَّيْرُ- وَمِنْ ظَاهِرِ النَّاسِ، وَبَاطِنِ الْجِنِّ إِلَى قَوْلِ الْعِفْرِيتِ إِلَى قَوْلِ‏:‏ ‏{‏الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ‏}‏ إِلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ هِدَايَةِ الْكِتَابِ إِلَى مَقَامِ الْإِسْلَامِ ‏{‏لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ‏}‏ ‏(‏الرَّحْمَنِ‏:‏ 24‏)‏ سَقَطَتِ الْيَاءُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا لِلَّهِ مِنْ حَقِّ إِنْشَائِهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ، إِلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِمَّا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنْ صِفَاتِهَا‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏الْجَوَارِ الْكُنَّسِ‏}‏ ‏(‏التَّكْوِيرِ‏:‏ 16‏)‏ حُذِفَتِ الْيَاءُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا تَجْرِي مِنْ مَحَلِّ اتِّصَافِهَا بِالْخِنَاسِ، إِلَى مَحَلِّ اتِّصَافِهَا بِالْكِنَاسِ، وَذَلِكَ يُفْهِمُ أَنَّهُ اتَّصَفَ بِالْخِنَاسِ عَنْ حَرَكَةٍ تَقَدَّمَتْ بِالْوَصْفِ بِالْجِوَارِ الظَّاهِرِ، يُفْهَمُ مِنْهُ وَصْفٌ بِالْجَوَارِ الْبَاطِنِ؛ وَهَذَا الظَّاهِرُ مَبْدَأٌ لِفَهْمِهِ؛ كَالنُّجُومِ الْجَارِيَةِ دَاخِلٌ تَحْتَ مَعْنَى الْكَلِمَةِ

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏فِي حَذْفِ النُّونِ‏]‏

وَيَلْحَقُ بِهَذَا الْقِسْمِ حَذْفُ النُّونِ وَحِكْمَتُهُ وَمَوَاضِعُهُ الَّذِي هُوَ لَامُ فِعْلٍ، فَيُحْذَفُ تَنْبِيهًا عَلَى صِغَرِ مَبْدَأِ الشَّيْءِ وَحَقَارَتِهِ، وَأَنَّ مِنْهُ يَنْشَأُ وَيَزِيدُ، إِلَى مَا لَا يُحِيطُ بِعِلْمِهِ غَيْرُ اللَّهِ، مِثْلُ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً‏}‏ ‏(‏الْقِيَامَةِ‏:‏ 37‏)‏، حُذِفَتِ النُّونُ تَنْبِيهًا عَلَى مَهَانَةِ مُبْتَدَأِ الْإِنْسَانِ وَصِغَرِ قَدْرِهِ بِحَسْبِ مَا يُدْرِكُ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ يَتَرَقَّى فِي أَطْوَارِ التَّكْوِينِ ‏{‏فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 77‏)‏، فَهُوَ حِينَ كَانَ نُطْفَةً كَانَ نَاقِصَ الْكَوْنِ؛ كَذَلِكَ كُلُّ مَرْتَبَةٍ يَنْتَهِي إِلَيْهَا كَوْنُهُ وَهِيَ نَاقِصَةُ الْكَوْنِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا بَعْدَهَا، فَالْوُجُودُ الدُّنْيَوِيُّ كُلُّهُ نَاقِصُ الْكَوْنِ عَنْ كَوْنِ الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ‏}‏ ‏(‏الْعَنْكَبُوتِ‏:‏ 64‏)‏‏.‏

كَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 40‏)‏ حُذِفَتِ النُّونُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةَ الْمِقْدَارِ، حَقِيرَةً فِي الِاعْتِبَارِ، فَإِنَّ إِلَيْهِ تَرْتِيبَهَا وَتَضَاعِيفَهَا‏.‏ وَمِثْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ‏}‏ ‏(‏لُقْمَانَ‏:‏ 16‏)‏‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 50‏)‏ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ أَقْرَبِ شَيْءٍ فِي الْبَيَانِ، الَّذِي أَقَلُّ مِنْ مَبْدَأٍ فِيهِ وَهُوَ الْحِسُّ، إِلَى الْعَقْلِ، إِلَى الذِّكْرِ، وَرَقَّوْهُمْ مِنْ أَخْفَضِ رُتْبَةٍ- وَهَى الْجَهْلُ- إِلَى أَرْفَعِ دَرَجَةٍ فِي الْعِلْمِ- وَهِيَ الْيَقِينُ- وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 105‏)‏؛ فَإِنَّ كَوْنَ تِلَاوَةِ الْآيَاتِ قَدْ أُكْمِلَ كَوْنُهُ وَتَمَّ‏.‏ وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 97‏)‏، هَذَا قَدْ تَمَّ كَوْنُهُ‏.‏ وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏ ‏(‏الْبَيِّنَةِ‏:‏ 1‏)‏، هَذَا قَدْ تَمَّ كَوْنُهُمْ غَيْرَ مُنْفَكِّينَ إِلَى تِلْكَ الْغَايَةِ الْمَجْعُولَةِ لَهُمْ، وَهَى مَجِيءُ الْبَيِّنَةِ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 85‏)‏، انْتَفَى عَنْ إِيمَانِهِمْ مَبْدَأُ الِانْتِفَاعِ وَأَقَلُّهُ، فَانْتَفَى أَصْلُهُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏فِيمَا كُتِبَتِ الْأَلِفُ فِيهِ وَاوًا عَلَى لَفْظِ التَّفْخِيمِ‏]‏

فِيمَا كُتِبَتِ الْأَلِفُ فِيهِ وَاوًا عَلَى لَفْظِ التَّفْخِيمِ

وَذَلِكَ فِي أَرْبَعَةِ أُصُولٍ مُطَّرِدَةٍ، وَأَرْبَعَةِ أَحْرُفٍ مُتَفَرِّعَةٍ‏.‏

فَالْأَرْبَعَةُ الْأُصُولِ هِيَ‏:‏ ‏{‏الصَّلَوةَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 3‏)‏، وَ‏{‏الزَّكَوةَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 43‏)‏، وَ‏{‏الْحَيَوةِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 85‏)‏، وَ‏{‏الرِّبَوا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 275‏)‏‏.‏

وَالْأَرْبَعَةُ الْأَحْرُفِ قَوْلُهُ فِي الْأَنْعَامِ وَالْكَهْفِ‏:‏ ‏{‏بِالْغَدَوةِ‏}‏ وَالنُّورِ‏:‏ ‏{‏كَمِشْكَوةٍ‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 35‏)‏، وَفَى الْمُؤْمِنِ‏:‏ ‏{‏النَّجَوةِ‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 41‏)‏ وَفَى النَّجْمِ‏:‏ ‏{‏وَمَنَوةَ‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 20‏)‏‏.‏

فَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 35‏)‏، ‏{‏إِنَّ صَلَاتِي‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 162‏)‏، ‏{‏حَيَاتُنَا الدُّنْيَا‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 29‏)‏، ‏{‏وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا‏}‏ ‏(‏الرُّومِ‏:‏ 39‏)‏، فَالرَّسْمُ بِالْأَلِفِ فِي الْكُلِّ‏.‏

وَالْقَصْدُ بِذَلِكَ تَعْظِيمُ شَأْنِ هَذِهِ الْأَحْرُفِ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ عَمُودَا الْإِسْلَامِ، وَالْحَيَاةَ قَاعِدَةُ النَّفْسِ، وَمِفْتَاحُ الْبَقَاءِ، وَتَرْكَ الرِّبَا قَاعِدَةُ الْأَمَانِ، وَمِفْتَاحُ التَّقْوَى، وَلِهَذَا قَالَ‏:‏ ‏{‏اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَوا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 278‏)‏، إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 279‏)‏، وَيَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعِ الْحَرَامِ، وَأَنْوَاعِ الْخَبَائِثِ، وَضُرُوبِ الْمَفَاسِدِ؛ وَهُوَ نَقِيضُ الزَّكَاةِ؛ وَلِهَذَا قُوبِلَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَوا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 276‏)‏ وَاجْتِنَابُهُ أَصْلٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَإِنَّمَا كُتِبَتْ بِالْأَلِفِ فِي سُورَةِ الرُّومِ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْعَامَّ الْكُلِّيَّ؛ لِأَنَّ الْكُلِّيَّ مَنْفِيٌّ فِي حُكْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالتَّحْرِيمِ وَفِي نَفْيِ الْكُلِّيِّ نَفْيُ جَمِيعِ جُزْئِيَّاتِهِ‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ فَلِمَ كَتَبَ ‏(‏الزَّكَوةَ‏)‏ هُنَا بِالْوَاوِ‏؟‏ وَهَلَّا جَرَتْ عَلَى نَظْمِ مَا قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا‏}‏ ‏(‏الرُّومِ‏:‏ 39‏)‏‏؟‏‏.‏ قُلْتُ‏:‏ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْكُلِّيَّةُ فِي حُكْمِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ‏:‏ ‏{‏فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ‏}‏ ‏(‏الرُّومِ‏:‏ 39‏)‏‏.‏

وَأَمَّا كِتَابُ ‏{‏النَّجَوةِ‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 41‏)‏ بِالْوَاوِ فَلِأَنَّهَا قَاعِدَةُ الطَّاعَاتِ وَمِفْتَاحُ السَّعَادَاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَوةِ‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 41‏)‏‏.‏

وَأَمَّا الْغَدَوةُ‏:‏ فَقَاعِدَةُ الْأَزْمَانِ، وَمَبْدَأُ تَصَرُّفِ الْإِنْسَانِ؛ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْغُدُوِّ‏.‏

وَأَمَّا الْمِشْكَوةُ‏:‏ فَقَاعِدَةُ الْهِدَايَةِ، وَمِفْتَاحُ الْوِلَايَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 35‏)‏‏.‏

وَأَمَّا مَنَوةُ‏:‏ فَقَاعِدَةُ الضَّلَالِ، وَمِفْتَاحُ الشِّرْكِ وَالْإِضْلَالِ وَقَدْ وَصَفَهَا اللَّهُ بِوَصْفَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ يَدُلُّ عَلَى تَكْثِيرِهِمُ الْإِلَهَ مِنْ مُثَنًّى وَمُثَلَّثٍ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَالتَّغَايُرِ‏.‏

فَمِنْ مُعَطَّلٍ وَمُشَبَّهٍ، تَعَالَى الْإِلَهُ عَمَّا يَقُولُونَ‏!‏

فَصْلٌ‏:‏ فِي مَدِّ التَّاءِ وَقَبْضِهَا

وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ لَمَّا لَازَمَتِ الْفِعْلَ، صَارَ لَهَا اعْتِبَارَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا مِنْ حَيْثُ هِيَ أَسْمَاءٌ وَصِفَاتٌ، وَهَذَا تُقْبَضُ مِنْهُ التَّاءُ‏.‏ وَالثَّانِي مِنْ حَيْثُ أَنْ يَكُونَ مُقْتَضَاهَا فِعْلًا وَأَثَرًا ظَاهِرًا فِي الْوُجُودِ، فَهَذَا تُمَدُّ فِيهِ، كَمَا تُمَدُّ فِي ‏{‏قَالَتِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 113‏)‏ وَ‏{‏حَقَّتْ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 33‏)‏ وَجِهَةُ الْفِعْلِ وَالْأَمْرِ مِلْكِيَّةٌ ظَاهِرَةٌ، وَجِهَةُ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ مَلَكُوتِيَّةٌ بَاطِنَةٌ‏.‏

فَمِنْ ذَلِكَ الرَّحْمَةُ مُدَّتْ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ فِي مَدِّ التَّاءِ وَقَبْضِهَا لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ‏:‏ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي أَحَدِهَا‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 56‏)‏ فَوَضْعُهَا عَلَى التَّذْكِيرِ، فَهُوَ الْفِعْلُ‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الرُّومِ‏:‏ 50‏)‏ وَالْأَثَرُ هُوَ الْفِعْلُ ضَرُورَةً‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 218‏)‏‏.‏

وَالرَّابِعُ فِي هُودٍ‏:‏ ‏{‏رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 73‏)‏‏.‏

وَالْخَامِسُ‏:‏ ‏{‏ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ‏}‏ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 2‏)‏‏.‏

وَالسَّادِسُ‏:‏ ‏{‏أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 32‏)‏‏.‏

وَالسَّابِعُ‏:‏ ‏{‏وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 32‏)‏‏.‏

وَمِنْهُ ‏(‏النِّعْمَةُ‏)‏ بِالْهَاءِ إِلَّا فِي أَحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا مُدَّتْ بِهَا فِي مَدِّ التَّاءِ وَقَبْضِهِ‏:‏ فِي الْبَقَرَةِ ‏{‏وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 231‏)‏، فِي آلِ عِمْرَانَ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 103‏)‏‏.‏ وَالْمَائِدَةِ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 11‏)‏‏.‏ وَفَى إِبْرَاهِيمَ مَوْضِعَانِ ‏(‏الْآيَتَانِ‏:‏ 28، 34‏)‏، وَالنَّحْلِ ثَلَاثَةُ مَوَاضِعَ ‏(‏الْآيَاتِ‏:‏ 72 وَ 83 وَ 114‏)‏ وَفِي لُقْمَانَ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 31‏)‏‏.‏ وَفَاطِرٍ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 3‏)‏‏.‏ وَالطُّورِ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 29‏)‏‏.‏

وَالْحِكْمَةُ فِيهَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَاصِلَةَ بِالْفِعْلِ فِي الْوُجُودِ تُمَدُّ، نَحْوُ قَوْلِهِ فِي إِبْرَاهِيمَ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 34‏)‏ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 34‏)‏، فَهَذِهِ نِعْمَةٌ مُتَّصِلَةٌ بِالظَّلُومِ الْكَفَّارِ فِي تَنْزِيلِهِمَا‏.‏ وَهَذَا بِخِلَافِ الَّتِي فِي سُورَةِ النَّحْلِ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 18‏)‏ كُتِبَتْ مَقْبُوضَةً لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الِاسْمِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 18‏)‏؛ فَهَذِهِ نِعْمَةٌ وَصَلَتْ مِنَ الرَّبِّ، فَهِيَ مَلَكُوتِيَّةٌ خَتَمَهَا بِاسْمِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَخَتَمَ الْأُولَى بِاسْمِ الْإِنْسَانِ‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ ‏(‏الْكَلِمَةُ‏)‏ مَقْبُوضَةً إِلَّا فِي مَوْضِعٍ فِي الْأَعْرَافِ‏:‏ ‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 137‏)‏ هُوَ مَا تَمَّ لَهُمْ فِي الْوُجُودِ الْأُخْرَوِيِّ بِالْفِعْلِ الظَّاهِرِ دَلِيلُهُ فِي الْمِلْكِ، وَهُوَ الِاخْتِلَافُ وَتَمَامُهَا أَنَّ لَهَا نِهَايَةً تَظْهَرُ فِي الْوُجُودِ بِالْفِعْلِ فَمُدَّتِ التَّاءُ‏.‏

وَمِنْهَا ‏(‏السُّنَّةُ‏)‏ مَقْبُوضَةً؛ إِلَّا فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ فِي مَدِّ التَّاءِ وَقَبْضِهِ حَيْثُ تَكُونُ بِمَعْنَى الْإِهْلَاكِ وَالِانْتِقَامِ الَّذِي فِي الْوُجُودِ‏:‏ أَحَدُهَا فِي الْأَنْفَالِ‏:‏ ‏{‏فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 38‏)‏ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فِي الِانْتِقَامِ قَوْلُهُ قَبْلَهَا‏:‏ ‏{‏إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 38‏)‏، وَقَوْلُهُ بَعْدَهَا‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 39‏)‏‏.‏ وَفَى فَاطِرٍ‏:‏ ‏{‏فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 43‏)‏ وَيَدُلُّكَ عَلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى الِانْتِقَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَهَا‏:‏ ‏{‏وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 43‏)‏ وَسِيَاقُ مَا بَعْدَهَا‏.‏

وَفَى الْمُؤْمِنِ‏:‏ ‏{‏فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 85‏)‏ أَمَّا إِذَا كَانَتِ السُّنَّةُ بِمَعْنَى الشَّرِيعَةِ وَالطَّرِيقَةِ، فَهِيَ مَلَكُوتِيَّةٌ بِمَعْنَى الِاسْمِ تُقْبَضُ تَاؤُهَا، كَمَا فِي الْأَحْزَابِ‏:‏ ‏{‏سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ‏}‏ ‏(‏الْآيَتَانِ‏:‏ 38، 39‏)‏ أَيْ حُكْمَ اللَّهِ وَشَرْعَهُ، ‏{‏سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 77‏)‏‏.‏

‏.‏

وَمِنْهُ ‏{‏بَقِيَّتُ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 86‏)‏ فَرْدٌ، مُدَّتْ تَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى مَا يَبْقَى فِي أَمْوَالِهِمْ مِنَ الرِّبْحِ الْمَحْسُوسِ، لِأَنَّ الْخِطَابَ إِنَّمَا هُوَ فِيهَا مِنْ جِهَةِ الْمِلْكِ‏.‏

وَمِنْهُ ‏{‏فِطْرَتَ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الرُّومِ‏:‏ 30‏)‏ فَرْدٌ، وَصَفَهَا اللَّهُ بِأَنَّهَا فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، فَهِيَ فَصْلُ خِطَابٍ فِي الْوُجُودِ كَمَا جَاءَ‏:‏ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ الْحَدِيثَ‏.‏

وَمِنْهُ‏:‏ ‏{‏قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ‏}‏ ‏(‏الْقَصَصِ‏:‏ 9‏)‏ فَرْدٌ، مُدَّتْ تَاؤُهُ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْفِعْلِ إِذْ هُوَ خَبَرٌ عَنْ مُوسَى، وَهُوَ مَوْجُودٌ حَاضِرٌ فِي الْمِلْكِ، وَهَذَا بِخِلَافِ‏:‏ ‏{‏قُرَّةَ أَعْيُنٍ‏}‏ ‏(‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 74‏)‏، فَإِنَّهُ هُنَا بِمَعْنَى الِاسْمِ، وَهُوَ مَلَكُوتِيٌّ إِذْ هُوَ غَيْرُ حَاضَرٍ‏.‏

وَمِنْهُ ‏{‏وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ‏}‏ ‏(‏الْمُجَادَلَةِ‏:‏ 8، 9‏)‏ مُدَّتْ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي سُورَةِ الْمُجَادِلَةِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهَا الْفِعْلُ، وَالتَّقْدِيرُ‏:‏ وَلَا تَتَنَاجَوْا بِأَنْ تَعْصُوا الرَّسُولَ، وَنَفْسُ هَذَا النَّجْوِ الْوَاقِعِ مِنْهُمْ فِي الْوُجُودِ هُوَ فِعْلُ مَعْصِيَةٍ لِوُقُوعِ النَّهْيِ عَنْهُ‏.‏

‏.‏

وَمِنْهُ ‏(‏اللَّعْنَةُ‏)‏ مُدَّتْ فِي مَوْضِعَيْنِ‏:‏ فِي آيَةِ الْمُبَاهَلَةِ، وَفَى آيَةِ اللِّعَانِ، وَكَوْنُهُمَا بِمَعْنَى الْفِعْلِ ظَاهِرٌ‏.‏

وَمِنْهُ ‏(‏الشَّجَرَةُ‏)‏ فِي مَوْضِعِ ‏{‏إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ‏}‏ ‏(‏الدُّخَانِ‏:‏ 43‏)‏، لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْفِعْلِ اللَّازِمِ وَهُوَ تَزَقُّمُهَا بِالْأَكْلِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فِي الْبُطُونِ‏}‏ ‏(‏الدُّخَانِ‏:‏ 45‏)‏ فَهَذِهِ صِفَةُ فِعْلٍ كَمَا فِي الْوَاقِعَةِ‏:‏ ‏{‏لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 52‏)‏، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ‏}‏ ‏(‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 62‏)‏، فَإِنَّ هَذِهِ وَصَفَهَا بِأَنَّهَا‏:‏ ‏{‏فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ‏}‏ ‏(‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 63‏)‏، ‏{‏إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ‏}‏ ‏(‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 64‏)‏، فَهُوَ حِلْيَةٌ لِلِاسْمِ؛ فَلِذَلِكَ قُبِضَتْ تَاؤُهَا‏.‏

وَمِنْهُ ‏(‏الْجَنَّةُ‏)‏ مُدَّتْ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فِي الْوَاقِعَةِ‏:‏ ‏{‏وَجَنَّتُ نَعِيمٍ‏}‏ ‏(‏الْوَاقِعَةِ‏:‏ 89‏)‏ لِكَوْنِهَا بِمَعْنَى فِعْلِ التَّنَعُّمِ بِالنَّعِيمِ، بِدَلِيلِ اقْتِرَانِهَا بِالرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ وَتَأَخُّرِهَا عَنْهُمَا وَهُمَا مِنَ الْجَنَّةِ، فَهَذِهِ جَنَّةٌ خَاصَّةٌ بِالْمُنَعَّمِ بِهَا، وَأَمَّا ‏{‏مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 85‏)‏ وَ‏{‏أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ‏}‏ ‏(‏الْمَعَارِجِ‏:‏ 38‏)‏، فَإِنَّ هَذَا بِمَعْنَى الِاسْمِ الْكُلِّيِّ‏.‏

وَلَمْ تُمَدَّ‏:‏ ‏{‏تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ‏}‏ ‏(‏الْوَاقِعَةِ‏:‏ 94‏)‏ لِأَنَّهَا اسْمُ مَا يُفْعَلُ بِالْمُكَذِّبِ فِي الْآخِرَةِ، أَخْبَرَنَا اللَّهُ بِذَلِكَ فَالْمُؤْمِنُ يَعْلَمُهُ تَصْدِيقًا، وَلَا يُحْذَفُ لِفِعْلٍ أَبَدًا، وَالضَّابِطُ لِذَلِكَ‏:‏ أَنَّ مَا كَانَ بِمَعْنَى الِاسْمِ لَمْ تُمَدَّ تَاؤُهُ، مِثْلِ‏:‏ ‏{‏زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 131‏)‏ وَ‏{‏صِبْغَةَ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 138‏)‏ وَ‏{‏زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 1‏)‏ وَ‏{‏تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ‏}‏ ‏(‏التَّحْرِيمِ‏:‏ 2‏)‏ وَ‏{‏رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ‏}‏ ‏(‏قُرَيْشٍ‏:‏ 2‏)‏ وَ‏{‏حَمَّالَةَ الْحَطَبِ‏}‏ ‏(‏الْمَسَدِ‏:‏ 4‏)‏‏.‏

وَمِنْهُ ‏{‏وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ‏}‏ ‏(‏التَّحْرِيمِ‏:‏ 12‏)‏ مُدَّتِ التَّاءُ تَنْبِيهًا عَلَى مَعْنَى الْوِلَادَةِ وَالْحُدُوثِ مِنَ النُّطْفَةِ الْمَهِينَةِ، وَلَمْ يُضَفْ فِي الْقُرْآنِ وَلَدٌ إِلَى وَالِدٍ وَوُصِفَ بِهِ اسْمُ الْوَلَدِ إِلَّا عِيسَى وَأُمَّهُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، لَمَّا اعْتَقَدَ النَّصَارَى فِيهِمَا أَنَّهُمَا إِلَهَانِ، فَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ بِإِضَافَتِهِمَا الْوِلَادِيَّةَ عَلَى جِهَةِ حُدُوثِهِمَا بَعْدَ عَدَمِهِمَا، حَتَّى أَخْبَرَ تَعَالَى فِي مَوْطِنٍ بِصِفَةِ الْإِضَافَةِ دُونَ الْمَوْصُوفِ، وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 50‏)‏ لَمَّا غَلَوْا فِي إِلَاهِيَّتِهِ أَكْثَرَ مِنْ أُمِّهِ كَمَا نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى حَاجَتِهِمَا وَتَغَيُّرِ أَحْوَالِهِمَا فِي الْوُجُودِ، يَلْحَقُهُمَا مَا يَلْحَقُ الْبَشَرَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 75‏)‏‏.‏

وَمِنْهُ ‏(‏امْرَأَةٌ‏)‏ هِيَ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ مَدُّ التَّاءِ وَقَبْضُهُ وَهَى‏:‏ خَمْسٌ مِنَ النِّسَاءِ‏:‏ ‏{‏امْرَأَتُ عِمْرَانَ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 35‏)‏ وَ‏{‏امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ‏}‏ ‏(‏الْقَصَصِ‏:‏ 9 وَالتَّحْرِيمِ‏:‏ 11‏)‏ وَ‏{‏اِمْرَأَتَ نُوحٍ‏}‏ ‏(‏التَّحْرِيمِ‏:‏ 10‏)‏ وَ‏{‏امْرَأَتَ لُوطٍ‏}‏ ‏(‏التَّحْرِيمِ‏:‏ 10‏)‏ وَ‏{‏امْرَأَتُ الْعَزِيزِ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 30 وَ51‏)‏ كُلُّهَا مَمْدُودَةٌ‏.‏ تَنْبِيهًا عَلَى فِعْلِ التَّبَعُّلِ وَالصُّحْبَةِ وَشِدَّةِ الْمُوَاصَلَةِ وَالْمُخَالَطَةِ وَالِائْتِلَافِ فِي الْمَوْجُودِ وَالْمَحْسُوسِ، وَأَرْبَعٌ مِنْهُنَّ مُنْفَصِلَاتٌ فِي بَوَاطِنِ أَمْرِهِنَّ عَنْ بُعُولَتِهِنَّ بِأَعْمَالِهِنَّ‏.‏ وَوَاحِدَةٌ خَاصَّةٌ وَاصَلَتْ بَعْلَهَا بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَهَى امْرَأَةُ عِمْرَانَ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهَا ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، وَأَكْرَمَهَا بِذَلِكَ وَفَضَّلَهَا عَلَى الْعَالَمِينَ، وَوَاحِدَةٌ مِنَ الْأَرْبَعِ انْفَصَلَتْ بِبَاطِنِهَا عَنْ بَعْلِهَا طَاعَةً لِلَّهِ، وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ وَخَوْفًا مِنْهُ، فَنَجَّاهَا وَأَكْرَمَهَا، وَهَى امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَاثْنَتَانِ مِنْهُنَّ انْفَصَلَتَا عَنْ أَزْوَاجِهِمَا كُفْرًا بِاللَّهِ فَأَهْلَكَهُمَا اللَّهُ وَدَمَّرَهُمَا، وَلَمْ يَنْتَفِعَا بِالْوَصْلَةِ الظَّاهِرَةِ، مَعَ أَنَّهَا أَقْرَبُ وَصْلَةٍ بِأَفْضَلِ أَحْبَابِ اللَّهِ‏.‏ كَمَا لَمْ تَضُرَّ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ وَصْلَتُهَا الظَّاهِرَةُ بِأَخْبَثِ عَبِيدِ اللَّهِ، وَوَاحِدَةٌ انْفَصَلَتْ عَنْ بَعْلِهَا بِالْبَاطِنِ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى وَشَهْوَةِ نَفْسِهَا، فَلَمْ تَبْلُغْ مِنْ ذَلِكَ مُرَادَهَا مَعَ تَمَكُّنِهَا مِنَ الدُّنْيَا وَاسْتِيلَائِهَا عَلَى مَا مَالَتْ إِلَيْهِ بِحُبِّهَا وَهُوَ فِي بَيْتِهَا وَقَبْضَتِهَا، فَلَمْ يُغْنِ ذَلِكَ عَنْهَا شَيْئًا، وَقُوَّتُهَا وَعِزَّتُهَا إِنَّمَا كَانَا لَهَا مِنْ بَعْلِهَا ‏"‏ الْعَزِيزِ ‏"‏ وَلَمْ يَنْفَعْهَا ذَلِكَ فِي الْوُصُولِ إِلَى إِرَادَتِهَا مَعَ عَظِيمِ كَيْدِهَا، كَمَا لَمْ يَضُرَّ يُوسُفَ مَا امْتُحِنَ بِهِ مِنْهَا، وَنَجَّاهُ اللَّهُ مِنَ السِّجْنِ، وَمَكَّنَ لَهُ فِي الْأَرْضِ، وَذَلِكَ بِطَاعَتِهِ لِرَبِّهِ، وَلَا سَعَادَةَ إِلَّا بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَلَا شَقَاوَةَ إِلَّا بِمَعْصِيَتِهِ؛ فَهَذِهِ كُلُّهَا عِبَرٌ وَقَعَتْ بِالْفِعْلِ فِي الْوُجُودِ، فِي شَأْنِ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ فَلِذَلِكَ مُدَّتْ تَاءَاتُهُنَّ‏.‏